ريستارت للحياة: جيل الخبرة: لماذا نهدر كنوز المتقاعدين؟

نشر في 28-11-2025
آخر تحديث 27-11-2025 | 17:15
 أميرة الحسن

في لحظةٍ واحدة، يخفت وهج أسماء كانت في قلب القرار. يحملون سجلات أمم وحِكمة سنين، ورغم ذلك نتعامل معهم كأرقام انتهت صلاحيتها. إنهم متقاعدونا، كنوز بشرية نضعها في أرشيفٍ مهمل، وننسى أنهم البوصلة التي تهدي الطريق. ولأن كل شيءٍ قابل لإعادة التشغيل، حتى نحن، فقد آن الأوان لنُراجع نظرتنا لمن ظننا أن زمنهم مضى.

تبدأ الأزمة لحظة غلق باب المكتب خلف المتقاعد، إذ تتلاشى هويته المهنية فجأة، لا لعجزٍ فيه، بل لغياب منظومة تستوعب خبرته بعد انتهاء الخدمة. تختزل قيمته في معاشٍ شهري، فيما تغيب البرامج التي تحفظ سجله المهني، وتختفي البيئة التي تمنحه دوراً مستمراً، فتتولَّد العُزلة، ويضيع الشعور بالهدف، وتتسع الفجوة بين جيلٍ اكتسب الخبرة، وجيلٍ يمتلك الطاقة. 

إن خبرة المتقاعدين لم تُبن في دورةٍ تدريبية، ولا في ملفٍ إداري، بل تشكَّلت عبر احتكاكٍ يومي بالواقع، وتراكم طويل للتجارب، ورؤية دقيقة لتفاصيل لا تُدركها الخطط النظرية. ورغم ذلك، يُستبعدون بصمت، كأننا نخشى الضوء الذي يحملونه. المأساة ليست في انتهاء خدمتهم، بل في غياب بصيرتنا عن إدراك قيمتهم، فنصنع مجتمعاً يمجِّد السطحية، وينسى أن الحِكمة هي وقود الاستقرار.

اقتصادياً، نحن نحرق ثروة لا تُعوَّض بكل متقاعد يغادر موقعه، فهو مكتبة كاملة من الحلول والأسرار المهنية وشبكات العلاقات وقراءات الأسواق. ومع إغلاق هذه الأبواب تغيب ذاكرة المؤسسة، فتتكرَّر الأزمات نفسها، وتُهدر المليارات في تجارب فاشلة سبق أن خاضها غيرهم. وبينما نبحث عن خبرات جديدة، تبقى الخبرات الأصيلة حبيسة المنازل، في مفارقة مؤسفة تُهدر مستقبلنا، فيما كنوز الماضي تقف على أبوابنا.

أما اجتماعياً، فنخسر حِكمة لا تُقدَّر بثمن. صحيح أن الأسرة تحتفظ بمرجعيتها الأخلاقية، لكن المجتمع الأوسع يفقد الجسر الضروري بين خبرة الشيوخ وطموح الشباب. والمتقاعدون ليسوا مجرَّد أجداد في منازلهم، لكنهم سفراء معرفة قادرون على توجيه الأجيال الجديدة في مساراتهم المهنية والمدنية. وعندما يُستبعد كبار الخبرة من المشهد العام، يتراجع احترام التجربة أمام ضجيج التغيُّر السريع، ويخسر المجتمع توازناً كان يمكن أن يتحقق لو ظلوا جزءاً من دورة الإنتاج والتفكير.

لكن الأمل لا يزال ممكناً. الحل يبدأ بإعادة تعريف التقاعد بوصفه مرحلة إعادة توظيف للمعرفة، لا نهاية للعطاء. نحتاج إلى مجالس استشارية تمنح الخبراء مقاعد دائمة، ومنصات رقمية تربط حِكمتهم باحتياجات السوق، وفرق عمل هجينة تجمع بين حيوية الشباب وبصيرة الخبراء. نحتاج إلى سياسات تحوِّل الخبرة من ذاكرة فردية إلى رصيدٍ جماعي. اجمع عشرة متقاعدين من قطاع واحد، وستظهر أمامك خريطة كاملة لأخطاء الماضي وحلول المستقبل. هؤلاء هم جهاز الإنذار المبكِّر الذي همَّشناه، الصوت الذي يحذر قبل أن تقع الكارثة، والخبرة التي تقود قبل أن تتوه البوصلة.

فكيف نتقدَّم للأمام، فيما نترك أثمن عقولنا خلفنا؟

فلنضغط معاً زر «ريستارت» في وعينا الجمعي، لا للعودة إلى الوراء، بل لاستعادة العقول التي شيَّدت صروح الخبرة عبر الأجيال. ولنعد النظر إلى متقاعدينا، لا كفصولٍ انتهت، بل كطاقات مؤجلة تحمل ذاكرة حيَّة قادرة على إنقاذ مؤسساتنا من تكرار الأخطاء. فالحضارات لا تنهض بقطع الجذور، بل حين تُعيد الاعتبار لمن كانوا أساس البناء، بدل استبدال كنوز الماضي بسراب الحلول السريعة.

* إعلامية بحرينية 

back to top