ذكاء بلا ضمير
كان الناس قديماً يخافون من جهلهم... اليوم نخاف من ذكائنا. ليس لأن الآلات بدأت تفكّر، بل لأن الإنسان بدأ يتنازل عن ضميره كلما ازدادت أدواته ذكاءً. صارت التقنية تُنجز عنه، حتى كاد ينسى لماذا يفعل ما يفعل.
أطفالنا اليوم يعرفون كيف يطلبون من الذكاء الاصطناعي أن يكتب، ويرسم، ويقترح... لكن من يعلّمهم لماذا يُفترض أن يفعلوا ذلك؟
السؤال الأخلاقي انسحب من المشهد، وبقي السؤال التقني وحده في الضوء.
تقارير حديثة عن فرق الإنسان - الآلة تشير إلى ظاهرة خطرة: الإفراط في الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي، إذ أظهرت مراجعة بحثية واسعة من فريق في مايكروسوفت أن المستخدمين يميلون لقبول توصيات الذكاء حتى عندما تكون ناقصة أو مشكوكاً فيها، ما دامت تبدو «واثقة» و«سريعة». هذا الإفراط يجعل الإنسان خطّ الدفاع الأخير... ثم يجعله يتقاعد بلا إعلان.
في المقابل، يكشف خط بحثي آخر ما يحدث لأرواح أبنائنا في عالم الشاشات، دراسة من جامعة UCLA وجدت أن مجموعة من الأطفال الذين ابتعدوا عن الشاشات خمسة أيام فقط، وأمضوا وقتهم في تفاعل وجهاً لوجه، أصبحوا أفضل بكثير في قراءة تعابير الوجوه وفهم مشاعر الآخرين مقارنةً بزملائهم الملتصقين بالأجهزة. وكأن الشاشة لا تسرق الوقت فقط، بل تسرق مهارة قراءة الإنسان أيضاً.
ليست المشكلة في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في إنسانٍ يريد أن يترك له القيادة ويكتفي بدور الراكب. مقالات تحليلية في Harvard Business Review تحذّر من أن الذكاء الاصطناعي، مهما تطوّر، يعجز عن التقاط العوامل الإنسانية غير المحسوسة: النية، الرحمة، الحدس الأخلاقي، وأن ترك القرارات الحساسة له وحده مقامرة بالقيم قبل أن تكون مقامرة بالنتائج.
على الجانب المضيء، لا تأتي الأبحاث كلها بلغة الخوف، بل تقول لنا شيئاً أبسط: يمكن تربية الضمير في عصر رقمي.
أوراق في Moral Education والتعليم الرقمي تشير إلى أن إدماج «التربية الأخلاقية» و«المواطنة الرقمية» في المناهج، بوصفها تدريباً على التفكير قبل الضغط على الزرّ، يُحسّن قرارات اليافعين في بيئات الإنترنت ويقلّل انجرارهم وراء الإساءة والتنمر والانقياد الأعمى للتقنيات.
إذن الفكرة ليست أن نُطفئ الأجهزة، بل أن نوقظ الإنسان.
نريد جيلاً لا يخشى الذكاء الاصطناعي، بل يضعه في مكانه الطبيعي: أداة لا قائداً.
جيلاً يسأل قبل أن يستخدم: هل هذا حقّ؟ هل هو عادل؟ هل يترك أثراً نظيفاً في نفسي والناس؟
يا آباء هذا العصر... لا تخافوا من أن يكون أبناؤكم أذكى منكم تقنياً، خافوا من اليوم الذي تصبح فيه أجهزتهم أسرع من ضمائرهم.
ويا معلّمين... أعيدوا للصفّ درساً قديماً: أن الإنسان، مهما امتلك من أدوات، يبقى مسؤولاً أمام مرآته قبل أن يكون مطمئناً لنتائج خوارزمياته.
فالذكاء الذي بلا ضمير... قد يبني عالماً أكثر كفاءة، لكنه بالتأكيد لا يبني عالماً أرحم.