ريستارت للحياة: الصداقة من خلف الشاشات... سرابٌ يلمع وبيوتٌ تتصدع
في عصر التمازج الرقمي، حيث صارت الشاشات نوافذنا المُشرعة على العالم، شهدت طبيعة الصداقة تحولاً جوهرياً ينذرُ بزلزالٍ اجتماعي. ولأن كل شيء قابل لإعادة التشغيل... حتى نحن.
في كل أسبوع نمنح أنفسنا لحظة صدق، نتفحص فيها عادةً اعتدناها، أو فكرةً رسخت فينا، أو علاقةً اتخذت مساراً لا نعرف أين يقود، ونسأل بهدوء: هل نستحق الاستمرار فيها؟ أم آن أوان الضغط على زر «ريستارت» لنبدأ من جديد؟ وبينما نمضي في هذا التأمل، يطل علينا موضوع لا يمكن تجاهله: الصداقة التي تُولد خلف الشاشات، وتتمدد في حياتنا حتى تغيّر ملامح بيوت كاملة دون أن تُصدر صوتاً.
تكمنُ الخطورةُ البنيوية للصداقة الرقمية في قدرتها على التسلل إلى حصون الأسرة من أوسع الأبواب من دون أن يلتفت إليها أحد. فبينما ينشغل رب البيت في دردشاتٍ لا تنتهي، تتحول غرفة المعيشة إلى مساحة صامتة تخلو من دفء الحوار الحقيقي، وحين تلهث الزوجة خلف إعجابات افتراضية، تتصدع جدران الثقة تدريجياً. إنها علاقة تبدأ بفضول بسيط وتنتهي بإخلال يطول كيان الأسرة ويضعف روابطها.
إن الصداقة الافتراضية كسراب يلمع لمن يبحث عن اهتمام، لكنها حين تقترب تكشف فراغاً عاطفياً يلتهم الوقت والمشاعر. تبدأ بإعجاب أو كلمة عابرة، ثم تتوسع لتصبح مساحة بوح تفتح الطريق لشخص غريب يدخل إلى التفاصيل والمشاعر وربما الأسرار... وكل ذلك عبر شاشة صامتة تأخذ أكثر مما تعطي.
لقد بات العالم الافتراضي ساحة لصناعة الشخصيات المثالية المزيفة، تُصنع فيها شخصيات برّاقة لا تشبه أصحابها. هنا يصبح الإنسان العادي بطلاً متخيلاً، مما يفتح الباب أمام خداع عاطفي مُقنع، تنشأ فيه العلاقات على أوهامٍ لا على حقائق. إنها خيانة للذات قبل أن تكون خيانة للأسرة، حين نستبدل دفء الواقع ببرود الضوء الأزرق.
ومع هذا الانغماس، تفقد أسر كثيرة تماسكها، فبيوتنا التي كانت حصوناً للقيم تحولت تدريجياً إلى غرف منفصلة يعيش كل فرد فيها داخل عالمه الإلكتروني. وتسقط ثمار الثقة بسبب كلماتٍ معسولة لا تعرف معنى الوفاء. إنها مواجهة صامتة بين صداقة حقيقية تُبنى بالوجوه والقلوب، وأخرى رقمية تُبنى بالخيال والوهم.
ورغم ذلك، يبقى الإنسان كائناً اجتماعياً يبحث عمّن يصغي إليه حين يصمت الجميع، لكن الفارق كبير بين من يضيء عتمتك ومن يستهلك نورك. فالصداقة الحقيقية لا تحتاج إلى شاشة كي تتنفس، ولا تُبنى على رسائل عابرة أو حضور افتراضي، بل بوجهٍ تعرفه وصمتٍ تفهمه، ويدٍ تستطيع أن تربت على كتفك لا على هاتفك. ولهذا، أصبح علينا اليوم أن نتعامل مع العالم الرقمي بوعيٍ يحمي بيوتنا قبل مشاعرنا، لأن التكنولوجيا - إن غابت يقظتنا - تتحول إلى ثغرة خفية يتسرب منها ما يهز ثبات بيوتنا.
ومن هنا، تصبح إعادة تشغيل مفهوم الصداقة ضرورة لا ترفاً. فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت»، لا لنعود إلى الوراء، بل لنصون بيوتنا من العلاقات التي تتخفى خلف الضوء الأزرق، ونختار أن نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا وأكثر وفاءً لمن يعيشون في حياتنا لا في هواتفنا. لأن القلب الحقيقي لا يسكن في سحابة افتراضية، بل في بيتٍ دافئٍ تُضيئه وجوه مَن نحبّ.
* إعلامية بحرينية