ريستارت للحياة: عندما تُصان الكلمة يُصان العقل
لكل كلمةٍ معنى، ولكل مصطلح حقيقة، وبين المعنى والحقيقة تقف عقول الأمم؛ فهي التي تحفظ توازن الفكر، وتُصوب مسار الوعي، وتمنع سقوط القيم تحت ركام الزيف.ولأن كل شيءٍ قابل لإعادة التشغيل... حتى نحن، في كُل أسبوعٍ، نأخذ لحظة تأملٍ، نراجع فيها عادةً، فكرةً، أو علاقةً، ونسأل أنفسنا: هل نستمر بها؟ أم نضغط زر «ريستارت»... ونبدأ من جديد؟
ثمة حرب ناعمة لا تُقرع فيها طبول ولا تُرفع فيها رايات، تُخاض على ميدان العقول، ويُستباح فيها الوعي تحت لافتة «التحرر» و«التقدم». أسلحتها الكلمات، وضحاياها القيم، وغنيمتها جيل فقدت بوصلته بين ما يقال له إنه حرية، وما هو في جوهره انحراف مُزين بالألفاظ. إنها حرب المفاهيم، التي لا يُسفك فيها دم، بل تُسفك الحقيقة على مذبحة اللغة.
لقد أصبحت المفاهيم اللغوية في عصرنا أداة لإعادة تشكيل الضمير الجمعي. تُبدل فيها الأسماء فينقلب المعنى، فيتحول الحرام إلى «حرية»، والعيب إلى «أسلوب حياة»، والمعصية إلى «تجربة إنسانية». إنها آلية ذكية لإزاحة القيم دون صدام، تُغلف الانفلات بالجرأة، وتُسوغ الفوضى باسم الانفتاح، حتى غدت القدوة «مؤثراً» أجوف، يبيع الوهم في قالب من بريق زائف.
لقد تبدلت ملامح الوعي حتى اختلت الموازين: صار الحياء «تخلفاً»، والطاعة «ضعفاً»، والاحترام «خضوعاً»، والتمسك بالدين «تشدداً»، بينما الانحلال يُقدم على أنه «تحرر» و«إبداع». وتحولت النصوص الشرعية إلى ميدان للتأويلات الهوائية، يُنتزع منها ما يُرضي الأهواء ويُسكت عما يُوقظ الضمير. إنها فوضى فكرية تُعيد طلاء الباطل بألوان الحرية، وتُزين القبح بمساحيق التقدم، حتى يُصبح الانحراف وجهاً جديداً للحضارة، ويُختزل الحق في رأي قابل للجدل، ويُحاكم الصدق بتهمة التشدد.
ومن أخطر صور هذا التلاعب أن يسمى الشذوذ «مثلية»، وأن يطلق على المجتمع الشاذ «مجتمع الميم»، في محاولة لتجميل الباطل وإلباس الانحراف ثوب القبول. فليس هذا التغيير بريئاً، بل فعل ممنهج لتطبيع الانحراف وتجريده من قبحه الفطري. لأن الكلمة حين تُفرغ من معناها تفقد قدرتها على الردع، وتصبح حيادية زائفة تمر عبرها الانحرافات في وجدان الأجيال دون مقاومة.
إننا اليوم إزاء معركة وجودية تدور رحاها في ساحة اللغة، حيث تُغتال المفاهيم اغتيالاً منهجياً تحت شعارات «التحديث» و«التحرر»، وكما قال الأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوي في أحد أشهر أقواله الخالدة: «الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور». فالكلمة ليست حروفاً تُقال، بل فرقان يميز الله به بين الحق والباطل، وهي المعول الذي يهدم أو يبني، والنور الذي يهدي أو الظلمة التي تُغوي.
اللغة ليست زينة القول، بل ذاكرة الأمة وسياج وعيها. وحين تُحرف، تضيع القدرة على التمييز بين الحق والزيف، فالانحدار يبدأ من الكلمة، من لحظة تزييف الاسم وتبديل المعنى، حين نتوقف عن تسمية الأشياء بأسمائها فتغيب الحقيقة.
فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت»... لا عودةً إلى الماضي، بل نهوضاً بالوعي، وتنقية للغة من الزيف، وعودة إلى فطرة نقية لا تخدعها الألفاظ ولا يغويها بريق الباطل.
ولنكن حُراس الكلمة، نرفض أن تتبدل ألسنتنا بنطق المصطلحات المشوهة، ونُعلم أبناءنا معناها الصحيح، لأن من يحرس اللغة يحرس الفكر، ومن يحرس الفكر يحرس الأمة، ومن يصون الكلمة يصون إنسانيته وكرامته.
* إعلامية بحرينية