حين أختبر مدرسةَ بناتي
لماذا نُسلِّم أبناءنا لمدارس لا نعرفها إلا من الإعلانات؟ لماذا نجعل القبول امتحاناً للطفل... ولا نجعل المدرسة تمتحن نفسها أمام أسئلتنا؟
يوم قرّرتُ اختيار مدرسةٍ لبناتي، كتبتُ ما في قلبي من هواجس وأسئلة، ثم عدتُ إلى أدوات الذكاء الاصطناعي لأحوّلها إلى مصفوفةٍ دقيقةٍ لا تساوم، ميزانُ أسئلةٍ صاغه الذكاء... ونقّحه القلب.
بدأتُ من البديهي الذي نتغافل عنه: ماذا تريد هذه المدرسة أن يصير عليه أطفالي بعد اثني عشر عاماً؟ إن كان الجواب «درجات مرتفعة»، فقد فشلنا في أول سؤال، لأن الإنسان لا يُقاس بسطرٍ في شهادة.
سألتُ عن المعلّم قبل الجدران، فالمعلّم هو العامل الأثقل أثراً بين العوامل المدرسية كلّها، كما تُظهر تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD - 2021): أثره في التحصيل الدراسي يساوي ضعفَي أثر أي عاملٍ آخر تقريباً.
سألتُ عن مناخ المدرسة: هل يشعر الطالب أنه «من أهل المكان»؟ فالإحساس بالانتماء المدرسي عاملُ حمايةٍ طويل الأمد للصحة النفسية والسلوك، والطالب المتصل بمدرسته أقلّ عرضةً للمخاطر وأكثر قدرةً على العبور بسلام، كما تؤكد مراكز مكافحة الأمراض الأميركية (CDC - 2023) في تقريرها الوطني حول «الانتماء المدرسي وصحة المراهقين».
هذه ليست شاعرية تربوية، بل خلاصة دلائل رصدٍ وطنيّ حديث.
ثم سألتُ عن الشراكة مع الأسرة: لا أريد مدرسةً تُخبرنا، بل مدرسةً تُشركنا. نصف قرنٍ من الأبحاث، من أبرزها مراجعة Bull - 2008 في NZCER، يلخّص حقيقةً بسيطة: حين تتحالف المدرسة مع البيت، تتضاعف فرص تعلّمٍ أعمق وأهدأ، ويتحوّل الاجتماع الأسبوعي إلى تربيةٍ تتنفّس في الاتجاهين.
وسألتُ عن المنهج الذي يُدرِّب على التفكير لا على التكرار، وعن لغة الصف: هل فيها حقّ السؤال والاعتراض؟ هل الخطأ جزءٌ من التعلّم لا وصمةً تُخفى؟
وعن الأندية بعد الدوام: ليست ترفاً، فبرامج ما بعد المدرسة المصمَّمة على أسسٍ علمية ترفع الانضباط الداخلي، والارتباط بالمدرسة، والتحصيل، وتقلّل السلوكيات المقلقة - كما أظهر تحليلٌ تجميعي ضخم (Durlak et al.، 2011) نُشر في American Journal of Community Psychology.
أما القيم، فسألتُ عنها بلا مواربة: ما صورتكم للإنسان الجيد؟ كيف يُصنع «ضميرٌ» في هذه القاعات؟ كيف تُحلّ الخلافات؟ كيف تُحترم الخصوصيات الدينية والثقافية؟ فمدرسةٌ ترفع العلامات ولا ترفع الإنسان... تُخرِّجُ مظهراً يلمع وداخلاً يصدأ.
كانت المصفوفة بسيطةً في شكلها، عميقةً في روحها، كلُّ سؤالٍ فيها يطلب برهاناً لا وعداً. حين أجابوا عن الأكاديمي، سألتُ عن الأثر في الصف. وحين مدحوا المرافق، تساءلت: وأين أثرها في التعلّم؟ وحين تفاخروا بالجوائز، لم أطلب كؤوساً تلمع على الرف، بل حكايةَ طالبٍ تغيّر لأن أحداً آمن به.
في النهاية، اخترتُ المدرسة التي أجابت بهدوء لا بروايةٍ استعراضية، مدرسةٌ يعرف معلّموها لماذا يُعلِّمون، ويعرف طلابها أنهم أهلُ المكان لا ضيوفٌ على جدرانه.
ليست الحكاية عن قوائم وأسئلة فقط، الحكاية عن كرامة الوالدين وهما يختبران من سيحمل قلب طفلهما كل صباح. مدرسةٌ تُعلّم الإنسان قبل المنهج... هي التي تستحقُّ أن تختبرَ طفلاً. أمّا غيرُها، فدعها تتزيّن بما شاءت من شعارات. يكفي أنها جعلت السؤال عادةً، والإنسانَ قبل المنهج. هناك ينتهي بحثُنا... ويبدأ تعلّمُ أبنائنا.