بُعد آخر: جُرأة الاستدامة
وراء كل اسم تجاري كبير قصة عائلة بدأت من الصفر.
فكثير من الشركات العملاقة التي نعرفها اليوم - مثل فيلبس ونايك ووولمارت وأوراكل وسامسونغ - لم تولد مؤسسات عالمية، بل بدأت كمشاريع عائلية صغيرة جمعت بين الطموح والإصرار، لكنها ما لبثت أن أدركت أن الاستدامة لا تتحقق بالثقة بالأشخاص وحدها، بل ببناء نظم حوكمة تُحوّل الجهد العائلي إلى عمل مؤسسي تحكمه المنهجية والمعايير، لا القرارات الفردية.
وفي المقابل، هناك عائلات لم تدرك أهمية هذا التحول إلّا بعد فوات الأوان، فخسرت ما بنته عبر أجيالٍ من العمل حين امتزجت الإدارة بالعاطفة وتبددت الثروة في صراعات الورثة.
كثيرٌ من هذه القصص تنتهي لا بسبب السوق أو المنافسة، بل لأن البناء العائلي لم يتحوّل إلى بناءٍ مؤسسي يحفظ الثروة ويُديرها بعقلٍ لا بعاطفة. وهنا تبرز «حوكمة الشركات العائلية» بوصفها الإطار الذي يضع قواعد واضحة للعلاقة بين الملكية والإدارة، ويحدّد الأدوار والمسؤوليات، ويؤسس لقراراتٍ تستند إلى الكفاءة لا القرابة، وإلى الشفافية لا الاجتهاد الفردي. إنها ببساطة منهجٌ يُمكّن العائلة من الاستمرار دون أن تُقيّدها الروابط الشخصية، ويمنح المؤسسة القدرة على النمو ضمن نظام مهني يحفظ توازن العلاقة بين العائلة والمشروع.
في الكويت أدركت بعض الشركات فائدة هذا التحول وأن الإدراج في البورصة لم يكن خطوة مالية فقط، بل خياراً استراتيجياً للحفاظ على تماسك الكيان عبر هيكلٍ تنظيمي واضح، ومصفوفة صلاحيات دقيقة، وإجراءات تعزز الشفافية والمسؤولية. وبهذه «الجُرأة» أصبحت تلك الشركات العائلية مؤسسات تحكمها الأنظمة لا الأشخاص.
أما في السعودية، فقد جسّدت شركة ماسك (عائلة السبيعي) مفهوم الحوكمة العائلية بوعيٍ عمليّ حين وضعت قاعدة حاسمة: لا يُعيَّن أي فردٍ من العائلة ما لم يكتسب خبرة مهنية لا تقل عن خمس سنوات خارج الشركة.
هذه القاعدة رسّخت فكرة أن الانتماء للعائلة لا يُغني عن الكفاءة، وأن الأهليّة هي الطريق الوحيد للمسؤولية.
إن هذه التجارب الخليجية تثبت أن الحوكمة ليست ضد نشاط العائلة التجاري، بل ضمانٌ لديمومتها. فهي التي تفصل العاطفة عن القرار، وتحافظ على الاسم التجاري من التآكل بعد غياب المؤسس. وقد يكون من المفيد في الكويت «توثيق هذه النماذج ضمن سجل وطني للشركات العائلية المُحوكمة» يضم دساتيرها وتجاربها في التعاقب الإداري، لتكون مرجعاً ملهماً لعائلاتٍ أخرى تبحث عن طريقٍ آمنٍ لاستدامة إرثها.
فالجيل الثالث يجب ألا يكون نهاية القصة، بل بدايتها المتجددة، حين تتحول الثروة من «ملكية موروثة» إلى قيمٍ مؤسسية متوارثة.
* متخصص في الحوكمة وعضو معهد الحوكمة المعتمد في بريطانيا وأيرلندا