يضحك وهو يحترق

نشر في 07-11-2025
آخر تحديث 06-11-2025 | 18:07
 د. أحمد حسين الفيلكاوي

في كل مقطع «ريل» يضحك جيلٌ كامل... ولا يرى أن ضحكته تذوب ببطء. ضحكٌ سريع، فرحٌ يبرق ثم يخبو، وقلوبٌ تتعلّم كيف تُخفي وجعها بفلتر، وكيف تقول «أنا بخير» بإيموجي. نسألهم: كيف حالكم؟ يبتسمون. لكن خلف الابتسامة شاشةٌ باردة، تُطفئ ما تبقّى من الدفء الإنساني.

​هذا جيل يُعبِّر بفلتر ويختبئ بإيموجي، يرى العالم من نافذة بحجم الكف، فيتعثّر حين يخطو خارجه. يضحك في العلن، ويغرق في الصمت حين تنطفئ الإشعارات. ولسنا أمام «جيل هشّ» بقدر ما نحن أمام جيل أرهقناه بمعايير لا تُطاق: كن جميلاً، ناجحاً، حاضراً، إيجابياً دائماً... وإلا خرجت من المشهد.

​الواقع أن استخدام وسائل التواصل بين اليافعين صار شبه كونيّ: حتى 95٪ من المراهقين (13–17 عاماً) على منصة واحدة على الأقل، وأكثر من ثلثهم يستخدمها «على نحوٍ شبهِ دائم». وهذا الحضور الكثيف ليس متساوي الأثر على الجميع، لكنه يرتبط بمخاطر أعلى عندما يتجاوز ثلاث ساعات يومياً، إذ تتضاعف احتمالات مشكلات الصحة النفسية لدى من يتخطّون هذا الحدّ الزمني، وفق تحذير رسمي من الجرّاح العام في الولايات المتحدة د. فيفيك ه. مورثي (Vivek H. Murthy) 2023.

​وتشير أبحاث مُحكَّمة إلى أن إجهادَ وسائل التواصل يتغذّى على المقارنة الاجتماعية، والخوف من الفوات، وتدفّق المعلومات، لينتهي بقلقٍ اجتماعي وسلوكٍ تراكمي «متخفٍّ» أشبه بالتفرّج الصامت. ليست المشكلة في الأداة، بل في كيف وكم نستخدمها، وما الذي تسرقه من النوم والرياضة والرفقة الحقيقية. 

​وقد أكدت دراسة علمية رصينة في مجلة JAMA Psychiatry (2019) أن الاستخدام الكثيف (3+ ساعات يومياً) يرتبط باحتمالاتٍ أعلى مرّتين لاعتلالٍ نفسي شديد لدى المراهقين، حتى بعد ضبط عوامل أخرى. هذه ليست شائعة «أهل واتساب»، بل نتيجة دراسة منشورة ومفتوحة الوصول. هذا الجيل لا يحتاج محكمةً تُوبّخه... بل صدراً يحتضنه ومعنىً يرشده.

الحلول ليست شعاراتٍ وعظية، بل مواقف قابلة للتطبيق:

• البيت: منصّة عاطفية أولى. ساعةُ إصغاء يومية بلا شاشات، وجملة «أنا فخور بك» تُداوي أكثر من ألف إعجاب.

• المدرسة: حصةُ حوارٍ أسبوعية بلا درجات، يُجاز فيها السؤال الشخصي والاختلاف بأمان.

• الإعلام وصنّاع المحتوى: كفّوا عن تصدير الكمال، أظهروا مسودّاتِ الطريق لا لقطاتَ النهاية.

• سياسات محلية ذكية: ميثاقُ استخدامٍ أسري/مدرسي يراعي العمر، ونوافذُ نومٍ بلا أجهزة. توصيات الهيئات العلمية تؤكد أن السياق والمدة والمحتوى هي مفاتيح الأثر. 

• للشباب أنفسهم: استعادة «الطقوس البشرية»: مشيٌ يومي، كتابٌ ورقي، صديقٌ يُرى بالعين لا بالكاميرا.

جيلُنا كان يخاف السلطة... وجيلهم يخاف الوحدة.

والعلاج ليس باللوم، بل بإعادة الدفء إلى العلاقات الحقيقية. فلنُربِّهم على أن يعيشوا بصدق... لا أن يُعرَضوا بسعادة، لأن أجمل ضحكةٍ هي التي لا تحتاج جمهوراً.

back to top