من صيد الخاطر: الراشي والمرتشي وبينهما الرائش   

نشر في 31-10-2025
آخر تحديث 30-10-2025 | 19:19
 طلال عبدالكريم العرب

أثلج صدورنا خبر إحالة 73 متهماً إلى «الجنايات» بجرائم الرشوة والتوسط فيها، إلى جانب التزوير وغسل الأموال. ما جذب الانتباه في هذا الخبر هو تجريم «المتوسط لها»، أي «الرائش»، وهو توجه محمود لندرة تجريم صاحبه.

فهناك «الراشي والمرتشي، والرائش بينهما»، «فالراشي» هو الذي يدفع لإنجاز مصالحه، «والمرتشي» هو الذي يقبض مستغلاً وظيفته لإنجاز معاملة الراشي، أما «الرائش» فهو الوسيط بين الراشي والمرتشي.

الرشوة بجميع أشكالها محرّمة، والمنفعة منها «سُحت» في النار، لخطورتها على المجتمع وعلى الأمم، ولأنها تهضم، بالباطل، حقوق المستحقين، وتثير الحقد والكراهية ضد المرتشي تحديداً وضد مَن تغاضى عنه، لأنه هضم حقهم مستغلاً سلطته ووظيفته، وكلما ارتفعت منزلة المرتشي وسلطته زادت واشتدت عقوبته عند الله، وعند خلقه.

الرشوة محرمة عند جميع الأديان والأمم، دينياً ومدنياً، والعقوبة الرئيسية لها هي السجن المغلَّظ، وفي الشريعة اللعن والطرد من رحمة الله، وهذه دلالة على أن صاحبها مرتكب لكبيرة من الكبائر، وقد لَعَنَ رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، الراشيَ والمُرتشيَ والرّائِشَ، وهذا يُثبت أن الرائش شريك في الإثم والفساد، لأنه يُسهِّل وقوع جريمة محرمة.

الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عرّف الرشوة بأنها سُحت، وأن رشوة الحاكم، قاصداً القاضي أو المتنفذ، من السُّحْت، والسحت هو المال الحرام الذي لا بركة فيه، والمقصود أن رشوة القاضي هي أبشع صور أكل المال الحرام، الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال محذراً من رشوة القاضي بالهدايا: «الهدية للقاضي رِشْوَةٌ»، لأنها تضيّع العدل.

عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما، روى أن الراشي والمرتشي موعودان بالعذاب: «صاحبُ الرِّشوةِ موكولٌ إلى الله عز وجل، وداخلٌ في اللعنةِ»، وعبدالله بن مسعود قال إن الرشوة هي السُّحت الذي ورد ذمه في القرآن.

الرشوة لا تقتصر على المال، بل تتجاوزه، فالرشوة ليست في الحكم وحده، بل في كل شيء، أي أن أي مال أو مصلحة تُدفع لإحقاق باطل، أو إبطال حق في أي معاملة، هو رشوة. وتوبة المرتشي لن تُقبل إلا برد المال الحرام: «فمَن أكل الرشوة، فليُرجعها إلى الدافع، فإن لم يجده فليتصدق بها عنه، ولا توبة له حتى يفعل ذلك»، والله أعلم.

وللعلم فإن القانون يعتبر «الرائش» شريكاً أساسياً في جريمة الرشوة، أي لا يجب أن يفلت من العقوبة، فهو مَن يقوم بتسهيل وإتمام الرشوة، بل ويحرّض عليها، وهو مَن يكسر حاجز الخوف والشك بين الراشي والمرتشي، وعقوبته لا يجب أن تقل عن عقوبة الراشي أو المرتشي.

حفظ الله بلدنا من «الراشي والمرتشي وبينهما الرائش»، وما أكثرهم، فقد تكاثروا في البلد من دون رادع، حتى أصبح الكثير من مصالح البلاد والعباد لا تُنجز إلا بهم أو عن طريقهم.

back to top