عقولنا في عُلب ونتساءل: أين الإبداع؟

نشر في 31-10-2025
آخر تحديث 30-10-2025 | 18:22
 د. أحمد حسين الفيلكاوي

في كل صباح، يدخل الطلبة إلى صفوف متشابهة: نفس الترتيب، نفس المقاعد، نفس السبورة، نفس الطريقة. يُلقَّن المنهج، يُحل الواجب، يُعاد الامتحان... ثم يُقاس كل شيء بدرجة. وبعد كل هذا، نسأل: لماذا لا يُبدع أبناؤنا؟

​كيف نطلب من العقول أن تُبدع... ونحن نُغلقها في عُلب؟ نُعلّمهم أن الحل الصحيح واحد، وأن السؤال يجب أن يُطرح بصيغة نموذجية، وأن التفكير خارج الصندوق... خطأ يُخصم عليه!

​في دراسة نُشرت في Creativity Research Journal تبيّن أن معدلات التفكير الإبداعي لدى طلبة المرحلة المتوسطة انخفضت بنسبة 30 في المئة خلال العقدين الأخيرين، وأن أكثر الأسباب تعود إلى «الضغط الأكاديمي الموحّد والنمطية الصفّية».

​المدارس تُشبه مصانع التعبئة: كل طفل يدخل بخياله... ويخرج بشهادة واحدة، وسلوك واحد، وطموح لا يخرج عن ثلاثة خيارات. المعلم يُطالب «بتنمية الإبداع»، لكنه يُحاسَب إن خرج عن الكتاب. المنهج يذكر الإبداع في المقدمة... ثم يُقيّده بالأنشطة المغلقة.

​نحن لا نكسر العُلب... بل نُزيّنها! نُضيف رسمة على الغلاف، نُجمّل التمرين، نُخفف الأسلوب... لكن الصندوق هو هو. الإبداع ليس مهمة ترفيهية... بل مناخ فكري.

​فيا من تصرخون: أين الموهوبون؟ اسألوا أولاً: هل تركتم لهم مساحة ليختلفوا؟ هل منحتموهم لحظة تفكير بلا توقيت؟ هل سمحتم لطفل أن يُخطئ... دون أن يُحبط؟

العقول لا تُبدع في العُلب... حتى لو طُليت بألوان زاهية. بل حين تُكسر العُلب، وتُفتح النوافذ... ويُقال للطفل: «لا بأس... فكّر بطريقتك!»

​في أحد الفصول، رُسمت على الجدار عبارة: «فكر بإبداع»، لكن الطالب الذي أجاب بطريقة مختلفة... رُفضت إجابته لأنها «ليست في النموذج». وهكذا، نُكرّم الإبداع بالشعارات... ونخنقه في التطبيق.

في تقرير صادر عن منظمة Torrance Center، وُجد أن الأطفال بعمر 5 سنوات يُظهرون مستويات عالية من التفكير الإبداعي بنسبة تفوق 85 في المئة، لكن هذه النسبة تنخفض إلى أقل من 10 في المئة عند سن 12 عاماً بسبب «بيئات تعليمية لا تسمح بالتجريب، وتكافئ الحلول النموذجية».

​كيف نُريد عقولاً مبتكرة... ونحن نُعلّمها أن تتشابه؟ نُربيهم على الحذر من الغلط، والخوف من «الخروج عن السؤال»، والرهبة من رأي يختلف عن معلمهم.

​الموهبة لا تنمو في جدول حصص مزدحم بالشرح والتلقين. ولا في منهج لا يسمح بالسؤال، ولا في حصة لا تحتمل التوقف والتأمل. الإبداع لا يُولد داخل قالب... بل حين نكسر القالب، ونحتفي بالمجهول، ونشجّع الخطأ النبيل.

​كم من فكرة طُردت لأنها لم تكن مألوفة؟ وكم من طالب كتم فكرته لأنه خاف أن يُقال له: «ركز في الكتاب فقط!» نُعلّم طلابنا أن يلتزموا بالنموذج... ثم نتساءل لماذا لا ينتجون شيئاً خارجه.

فيا أصحاب القرار، لا تسألوا عن الإبداع في تقارير الأداء... بل اسألوا عن البيئة التي تسمح بظهوره، عن المعلم الذي يحتضنه، وعن الطفل الذي يُعاقب لأنه فكّر بطريقة مختلفة.

​الإبداع لا يُدرّس في درسٍ، بل يُزرع في ثقافةٍ. فحين يتعلّم المعلم أن يُصغي لا أن يُملي، ويتعلّم الطالب أن يجرّب لا أن يحفظ، وحين يُكافأ الخطأ الذكي لا يُعاقب، حينها فقط تبدأ العقول بالخروج من عُلبها.

​نحن لا نحتاج لمنهج جديد فقط... بل لعقلية جديدة تؤمن بأن العقول حين تُحرّر... تُبدع بالفطرة.

back to top