بُعد آخر: وأنت الخصمُ والحكَمُ!

نشر في 29-10-2025
آخر تحديث 28-10-2025 | 20:15
 د. عبدالرحمن بدر القصّار

«لا يجوز لأحد أن يكون قاضياً في قضيته الخاصة» - اللورد أتكين.

بهذه العبارة وضع اللورد أتكين أحد أهم أركان العدالة الإدارية: الحياد المؤسسي (Institutional neutrality). وهو عدم الميل إلى أي طرف من أطراف الخلاف أو النزاع وأن يتسم متخذ القرار بالموضوعية وعدم الانحياز إلا للحقيقة. 

فالعدالة لا تتحقق بوجود لجنة أو إجراء فحسب، بل بوجود فصل واضح بين صاحب القرار ومن يراجع قراره (Checks and Balance). وحين يختفي هذا الفصل، تتحول العدالة من ممارسة موضوعية إلى إجراء شكلي.

في مؤسسات القطاع العام، تمثّل لجان التحقيق أو التظلّم أداة أساسية لترسيخ العدالة الإدارية، إذ يُفترض بها أن تراجع القرارات بعينٍ مستقلة ومنصفة. غير أن الواقع يكشف أن بعضاً منها يفتقر إلى الاستقلال المطلوب، فتُشكَّل من داخل الجهة ذاتها التي أصدرت القرار محلّ التظلّم، وهو ما قد يُضعف ثقة الأطراف في نزاهة نتائجها.

ولعلّ من أبرز أمثلة ضعف الحياد المؤسسي في لجان التظلمات هي لجنة التظلّمات بوزارة الشؤون الاجتماعية، المعنيّة بالنظر في قرارات حلّ مجالس إدارات الجمعيات التعاونية وعزل أعضائها، إذ يُلاحَظ أن أغلب أعضاء اللجنة (4 من أصل 6) هم من الطاقم التعاوني بالوزارة الذي شارك في إصدار ومراجعة قرارات الحل. فكيف يمكن للجنة أن تمارس دورها بموضوعية وهي تنظر في قرار كانت طرفاً فيه؟

إن اجتماع الخصم والحكم على طاولة واحدة يُفرغ العدالة من مضمونها مهما حَسُنت النوايا. كما عبر عن ذلك المتنبي حينما قال:

يا أعدلَ الناس إلا في معاملتي                

                فيكَ الخِصامُ وأنت الخصمُ والحَكَمُ

إن حوكمة هذه اللجان تقتضي «استقلالاً حقيقياً في تشكيلها وتبعيتها»، بحيث تُرفع تقاريرها إلى جهة عليا محايدة لا ترتبط وظيفياً بصاحب القرار محلّ التظلّم، وأن تضم في عضويتها خبرات قانونية وإدارية من خارج الجهة لضمان تنوّع الخبرات وموضوعية القرارات. كما يجب «تمكينها» من الاطلاع الكامل على المستندات والبيانات دون قيود، لأن العدالة لا تُبنى على معلومات ناقصة أو محجوبة.

ولا يقل أهمية عما سبق وجوب «تنفيذ قرارات تلك اللجان» واحترام نتائجها حتى وإن خالفت رغبة المسؤول، حتى يكون لتلك اللجان المصداقية الكاملة، فالعدالة التي تتوقف عند حدود الرضا الشخصي ليست عدالة مؤسسية بل تجميل إداري.

ولا يتوقف الخلل عند حدود تلك اللجان، بل يمتد أحياناً إلى طريقة التعامل مع الموظف المتظلّم نفسه، إذ يجد بعض الموظفين أنفسهم بعد تقديم تظلّمهم عرضة للتهميش أو النقل أو خفض التقييم. مثل هذه الممارسات تنقض جوهر العدالة المؤسسية، إذ تزرع الخوف بدل الثقة، وتحوّل حق التظلّم إلى مخاطرة وظيفية.

ومن ثمّ، فإن من المهم أن يتم إقرار تشريعات حماية واضحة للمتظلّمين ومتابعة تنفيذها، على غرار ما هو معمول به في حماية المبلّغين عن الفساد.

إنّ إصلاح آلية عمل لجان التحقيق والتظلّم ليس من الكماليات الإدارية، بل ركيزة من ركائز الحوكمة الرشيدة، وضمانة لبقاء القرار الإداري محكوماً بالقواعد لا بالأهواء، وبالمؤسسات لا بالأشخاص.

* متخصص في الحوكمة وعضو معهد الحوكمة المعتمد في بريطانيا وأيرلندا

back to top