بُعد آخر: استقلالية العضو المستقل
في إحدى الشركات الكبرى، كان مجلس الإدارة يعقد اجتماعه الدوري. جلس العضو المستقل في مكانه المُعتاد، يتأمل ملف الاجتماع أمامه، فيما يتحدَّث الرئيس بثقة عن «النتائج الإيجابية». وعندما طُرح بندٌ مثير للجدل، عمَّ الصمت للحظات، قبل أن يرفع العضو المستقل يده، قائلاً بابتسامةٍ خفيفة: «أنا معاكم باللي تشوفونه». انتهى الاجتماع وقد أُقِرّت البنود كما قُدِّمت، من دون مراجعة أو نقاش. أما العضو المستقل، فخرج مطمئناً إلى أنه أدَّى دوره كما ينبغي. غير أن مثل هذا المشهد– وإن كان من وحي الخيال– إلا أنه يعكس جزءاً من واقع مجالس الإدارات، ويفتح باب التساؤل حول مدى عُمق مفهوم الاستقلالية في مجالس الإدارات، ودور الأعضاء المستقلين، الذين يُفترض أن يكونوا ميزان الحوكمة وصوت العقل المهني داخل المجلس، يُراقبون ويُوازنون ويُطرحون الأسئلة التي تُثري النقاش وتدعم جودة القرار. فإلى جانب الاستقلالية التنظيمية التي تُعرِّفها اللوائح والضوابط الرسمية، هناك بُعدٌ آخر لا يقل أهمية، هو الاستقلالية الاجتماعية والنفسية، تلك التي تتأثر بطبيعة العلاقات الشخصية ومستوى القُرب الاجتماعي بين أعضاء المجلس والإدارة التنفيذية.
وفي بيئاتٍ مترابطة، مثل الكويت، تُصبح هذه العلاقات جزءاً من المعادلة الحقيقية لاستقلال الرأي وموضوعية القرار. وقد ناقش هوانغ وكيم (2009) هذا الجانب، من خلال ما أسمياه بـ «الاستقلالية الاجتماعية»، التي تتجاوز القواعد الرقابية إلى العوامل الظرفية والنفسية المؤثرة على موضوعية العضو، حيث بيَّنا أن وجود روابط اجتماعية- كالدراسة في الجامعة نفسها، أو أداء الخدمة العسكرية معاً، أو الإقامة في المنطقة ذاتها، أو الالتقاء المنتظم في ديوانية أو نشاط رياضي، قد يولِّد تقارباً نفسياً، ويُسقط الحواجز والرسميات، مما يُضعف موضوعية العضو أو يزيد من احتمالية التحيُّز (Bias) في القرارات أو التصويت.
ومع الإقرار بأهمية المعايير التنظيمية التي تناولت مسألة القرابة والعلاقات الرسمية ضمن ضوابط الاستقلالية، إلا أن تلك المعايير- على ضرورتها- لا تكفي وحدها لضمان استقلال العضو. فالتأثير الحقيقي لا يرتبط فقط بدرجة القُرب العائلي أو الوصف القانوني للعلاقة، بقدر ما يرتبط بعُمق النفوذ الاجتماعي والميلان النفسي الذي قد يَحِدُّ من موضوعية الرأي واستقلال القرار. فقد تكون علاقة صداقة أو زمالة مهنية سابقة أشد تأثيراً على القرار من الارتباط العائلي، وهو ما يجعل جوهر التقييم هو «طبيعة التأثير، لا شكل العلاقة».
ولأن معالجة هذه المسألة معقدة في بيئة اجتماعية مترابطة، مثل الكويت والخليج بشكلٍ عام، إلا أنه من الممكن اقتراح حلولٍ عملية واقعية، منها: 1. تأكيد سنوي لاستقلالية العضو يُقدَّم إلى لجنة الحوكمة أو لجنة الترشيحات في الجهة- على غرار ما تطبقه بورصة هونغ كونغ (HKEX)- يتضمَّن إفصاح العضو عن أي علاقة مالية أو اجتماعية قد تؤثر على استقلاليته، مع إلزام الجهة بالإفصاح عن أي مبررات لاستمرار اعتباره مستقلاً، رغم وجود ظرفٍ مُحتمل للتأثير. 2. نص مرن في سياسة الحوكمة يُتيح للجنة المختصة تقدير مدى تأثير العلاقة بناءً على طبيعتها وتكرارها والقُرب الشخصي أو المهني. 3. إضافة أمثلة توضيحية في دليل الحوكمة لما قد يُعد علاقة مؤثرة، مثل الحضور المنتظم لديوانية عضو تنفيذي، أو زمالة مهنية سابقة ضمن الجهة نفسها.
لا يمكن- بطبيعة الحال- منع العلاقات الاجتماعية في مجتمعٍ متقارب، مثل الكويت، لكن يمكن تنظيم آثارها على استقلال القرار، من خلال الإفصاح والشفافية. فالاستقلالية ليست حالة قانونية جامدة، بل ممارسة أخلاقية تُختبر في كل موقف، وكل تصويت، وكل سؤالٍ يُطرح على طاولة المجلس.
*متخصص في الحوكمة وعضو معهد الحوكمة المعتمد في بريطانيا وأيرلندا