ريستارت للحياة: مجتمعات تتزين بالمظاهر وتفقد جوهرها
في عالم يتبارى به الناس في استعراضِ البذخِ والترف، أصبحت حياتنا ساحةً لمعركةٍ صامتةٍ نخوضها ضد أنفسنا قبل الآخرين. وهنا ندرك أن شيئاً في معادلة الحياة قد اختل، وأن الوقت حان لنضغط زر الوعي من جديد. ولأن كل شيءٍ قابل لإعادة التشغيل... حتى نحن، ففي كل أسبوعٍ نأخذ لحظةَ تأمل نراجع فيها عادةً، فكرةً، أو علاقةً، ونسأل أنفسنا: هل نستمر بها؟ أم نضغط زر «ريستارت»... ونبدأ من جديد؟
لقد أصبح الترف في مجتمعاتنا العربية نمط حياة لا ميزة استثنائية. لم يعد رفاهاً يمارس حين تتسع الحال، بل واجباً اجتماعياً غير معلن، يمارس تحت ضغط المقارنة والخوف من أن نبدو أقل من الآخرين. نستدين لنلبس ما لا نحتاج، ونقترض لنأكل ما لا نشتهي، ونهدر الأموال لنصنع وهماً بالسعادة نرضي به أعين الناس ونرهق به أرواحنا. وكأننا فقدنا البوصلة، فصار المقياس لا بما نملك من قيم، بل بما نعرضه من مظاهر تسللت إلى تفاصيل حياتنا اليومية حتى غدت نمطاً من العيش نتباهى به.
من حفلات الزواج التي تحولت إلى مسارحٍ للضوء والصوت، إلى مكاتب العمل التي غزتها أكواب القهوة الفاخرة، يحملها الموظفون لا تقديراً لمذاقها، بل كرمز للمكانة والانتماء العصري. ففنجان القهوة الذي كان يوماً استراحةً من ضجيج الحياة، صار إعلاناً عن الذوق والمظهر أكثر مما هو حاجة أو متعة، حتى أصبح كثيرون يشترونه من علاماتٍ باهظة السعر لا رغبةً في الطعم، بل خشية أن يقال إنهم خارج دائرة «هَبّة العصر». نحن نعيش زمن المبالغة زمناً تثقل فيه القروض كاهل الأفراد لا لحاجةٍ ضرورية، بل لمجاراة مظهرٍ اجتماعي زائف، نستهلك فيه أكثر مما نحتاج ونقترض لاقتناء سيارات فاخرة لا لضرورتها بل لاستعراضها في الميادين العامة، ونسافر كل عام لا طلباً للراحة، بل سعياً لإثبات حضور في سباق خفي من الوجاهة وتكريس الصورة الاجتماعية، فتذبل فينا البساطة، ويبهت الامتنان، وتتحول السعادة إلى التزام مالي مؤجل تسدد أقساطه بثمن راحة ضائعة.
وحين يتحول الترف من خيارٍ إلى سلوكٍ جماعي، يفقد جوهره الجمالي ويتحول إلى عبءٍ نفسي واجتماعي يضغط على النفوس قبل الجيوب. تنشأ منه حالة قلقٍ جمعي، كأننا نعيش داخل مرآةٍ ضخمة نُراجع فيها ذواتنا بعيون الآخرين لا بضمائرنا. والأخطر أن هذا الترف المصطنع لا يُنتج سعادة، بل يضاعف الحاجة إلى المزيد، في دوامةٍ لا تنتهي من الإنفاق والإنهاك.
إن هذه الظاهرة ليست مجرد انحرافٍ استهلاكي، بل أزمة قيم تهدد كينونتنا الإنسانية. وإعادة تشغيل مفهوم العيش الرشيد يتطلب وعياً داخلياً يعيد ترتيب أولوياتنا، وانسجاماً بين الطموح والقناعة، بين الرغبة والاحتياج. لنعد تعريف الغنى الحقيقي، فليس الغنى عن كثرة المتاع بل سمو النفس وثراء الروح.
فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت»... ليس لنعود إلى الوراء، بل لإعادة تشغيل علاقتنا مع المال والاستهلاك، لنعش ببساطةٍ تليق بإنسانيتنا، وبجمالٍ ينبع من داخلنا، وبقيم تجعل من وجودنا أثراً لا مظهراً، ولتكن الحياة تجربةً تُعاش لا مشهداً يُستعرض.
* إعلامية بحرينية