عقول الطلاب في إجازة
في زمن الواجبات الذكية، لم يعد السؤال: «هل كتب الطالب؟»، بل: «من كتب؟». يقضي الطالب نصف ساعة في ترتيب سؤاله للآلة... وخمس دقائق في تسليم الواجب.
الإجابات مثالية، اللغة أكاديمية، الاقتباسات مضبوطة... لكن لا أحد يعرف: هل هذا فكر طالب؟ أم مجرد استدعاء إلكتروني؟ في دراسة أعدتها جامعة هارفارد عام 2024، وُجد أن أكثر من 61 في المئة من الطلاب الجامعيين اعتمدوا بشكل جزئي أو كامل على أدوات الذكاء الاصطناعي في إعداد واجباتهم. أما الأخطر؟ أن 39 في المئة من أعضاء هيئة التدريس لم يستطيعوا التمييز بين الواجب البشري والآلي! الذكاء يشتغل بدوام كامل... والعقل البشري في إجازة مفتوحة. الأستاذ يُصحّح النموذج، لا الطالب. والإدارة تُدوّن الدرجة... لا القدرة. والمؤسسة تحتفل بالامتياز... دون أن تكتشف أن المقال لم يُكتب داخلياً، بل استُخرج خارجياً.
نحن لا نواجه «غشاً ذكياً»، بل نشهد ولادة جيل جديد من «اللاوعي الأكاديمي»: طالب يُتقن التسليم... ويجهل ما سلّمه. يحصد الدرجة... ولا يعرف ماذا كتب. يجلس في لجنة الامتحان الشفهي... فيتلعثم أمام محتوى هو من أرسله! الخطورة ليست في ChatGPT نفسه، بل في استخدامه كذراع بديل عن العقل... بدل أن يكون امتداداً له. الأدوات لا تقتل الفكر... لكن الاستسلام لها يقتل الشخصية.
فيا تعليم الغد، اسأل قبل أن تُقيّم: من الذي كتب؟ واسأل الطالب قبل أن تمنحه الدرجة: «هل هذا فكرك... أم فكرت الآلة؟»، لأن الخطر الأكبر ليس في أن نُنتج مقالات ممتازة، بل أن نُخرّج طلاباً... لا يملكون صوتهم الشخصي.
في أحد الفصول، سأل المعلم الطالب عن رأيه في موضوع الواجب... فنظر إليه الطالب باستغراب، ثم قال ببراءة: «الرأي؟ ما فهمت قصدك!»، لأن الواجب لم يكن ناتجاً عن فكرة داخلية... بل عن أمر خارجي جاء جاهزاً، متقناً، لكن بلا أثر حقيقي في الذاكرة أو الفكر.
تدريجياً، يتحول الطالب إلى مدير حسابات ذكاء اصطناعي، لا إلى عقل ناضج. يعرف كيف يُعد الصيغة، يطلب المصادر، يضيف المراجع، يُنسق في Word... لكن لا يمتلك رأياً، ولا يحفظ جملة واحدة مما كُتب.
في تقرير صادر عن UNESCO عام 2023، حذّرت المنظمة من «اعتياد الطلاب على الاعتماد غير النقدي على أدوات الكتابة الذكية»، وأشارت إلى أن «ضعف المهارات التعبيرية الفردية بات يرتبط مباشرة بازدهار الإنتاج الآلي».
هل أصبحنا نقيّم قدرة الطالب على استخدام أدوات ذكية... بدل أن نختبر نضجه الفكري؟ هل نُخرّج مَن يجيد استخدام اللغة... أم من يفكر بها؟ هل الامتياز الآن يُمنح على المحتوى... أم على المهارة في التجميل والإخفاء؟ الطالب اليوم لا يغش... لكنه لا يُفكّر أيضاً. لا يزوّر... لكنه يستعير عقلاً آخر دون أن يدري. والأخطر أن الجميع – من المعلم إلى المؤسسة – يُشارك في هذه المسرحية الصامتة، إما بالصمت، أو بالإعجاب بالنتائج السريعة.
يجب أن يتعلّم الطالب استخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد للفكر لا كبديل عنه، وأن تتحول أدوات الذكاء إلى وسيلة لاختبار العمق لا للهرب منه. فالفكر لا يُلغى بالتقنية، بل يُختبر بها. ومن الخطأ أن نخاف من الأدوات بدل أن نُحسن تربيتها في أذهان طلابنا.
التعليم لا يُقاس بجودة النص... بل بمدى صدقه. ولا يُقاس بعدد الكلمات... بل بكم من هذه الكلمات خرج من عقل الطالب نفسه.
فيا منظومة التعليم، لا تفرحوا كثيراً بالانضباط الشكلي، ولا تنخدعوا بلغة راقية صاغتها الآلة. ابحثوا عن سؤال واحد: هل صاحب الواجب... كان حاضراً وهو يكتب؟ أم اكتفى بالإرسال؟