لغة النسيان

نشر في 17-10-2025
آخر تحديث 17-10-2025 | 00:00
 سليمان البسام

(صوت هادئ، كما لو أنها تخاطب أحدهم واقفاً عند الشاطئ)

استيقظتُ يوماً، ولم أجد أحداً من أهلي.

اختفوا كلهم.

كان ذلك قبل خمسة وثلاثين عاماً.

منذ ذلك اليوم تحولت أضلاعي لميادين رماية.

يأتني الرجال، يطلقون النار عليّ.

الرصاص يخترق جسدي، يُسمّونه تدريباً.

في بداية موسم «الصفري» يأتوني خبراء أجانب.

حاملين مجارف ودفاتر، ينبشون أحشائي بلطف،

يتعلّمون مني، يكتبون عني.. وهذا يُسعدني.

مرة بالسنة يزورني وفدٌ من كبار المسؤولين.

محملين بالكاميرات والوعود.

لأيامٍ قليلة أتصدر واجهة الأخبار.

يقترحون عليّ عمليات تجميل قاسية

شفط، بوتوكس، إبر، وكسر خشوم...

لكن لا أحد يسأل عمَّا أريد أنا.

في أعقاب كل زيارة،

يُأمر عددٌ من عشاق أطلالي بالرحيل.

أحياناً يزور النساء والأطفال ضريحي المحطم.

يحملون ماء الورد... والتمر.

لكن رجال الأمن يحسبونهم مشككين بثوابت الدين

وسرعان ما يطردونهم.

مدّ البحر ينهش أطرافي والصمت يلتهمني،

ومع مرور السنين انكمش جسدي

الشكوى لله... الحمد لله على كل حال...

فالطيور ما زالت تزورني:

الفلامنغو الوردي، آكل النحل الزمردي، أبو منجل البرونزي.

والدلافين ما زالت تسبح حولي.

زهرةٌ زرقاء بنقاطٍ صفراء تحمل اسمي.

والفنانون ما زالوا يحبونني، يرسمونني، يتغنون بي،

ويجدون في وجهي المهترئ شيئاً من الجمال.

شقيقاتي عبر البحار يرسلن لي أخباراً تفرح القلب:

العُلا فاتنة من جديد، ودلمون لها أميرة تحبها،

والعين لديها مرشدون يتحدثون عنها بالإنجليزية للزوار الأجانب!

أنا سعيدة لأجلهن، لكني لم أعد أنظر في المرايا.

أقول لنفسي إن أولياء أمري يحبونني، رغم عدم اكتراثهم بي.

هكذا تربيت - أن الحب لا يحتاج إلى كلام.

لكن الآن... سمعت أن رجال «بلاك روك»* قادمون.

أخاف أن يُرسلوا إليّ، أولئك الذين يحملون الدفاتر والعقود،

ويقيسون الحب بالأرباح.

ففي عيونهم أنا لستُ سوى قطعة أرضٍ هامدة لا تصلح إلا لتشييد مراقص ومولات.

نعم، أخشاهم أكثر من «أبو درياه» و«الطنطل»**..

وجحافل الإسكندر.

(تتنفس ببطء، تنظر نحو البحر)

أنا فيلكا.

كنتُ أجمل الجزر.

والآن...

أتعلّم،

لغة النسيان البطيء.

(صمت طويل)

******

* أكبر شركة استثمارية في العالم

** كائنات أسطورية معهودة لأهل فيلكا



- سليمان البسام، كاتب ومخرج مسرحي

back to top