بُعد آخر: حين صَمَتَ العالَم... وتكلَّم الركام!
غزة اليوم ليست كما كانت بالأمس، مدينة غارقة في الركام تسائل ضمير العالم عن معنى العدالة، فقد دُمِّرت فيها البيوت والجامعات والمدارس والمستشفيات وأماكن العبادة ومحطات الكهرباء والمياه، وقُتل ما يقارب سبعين ألف إنسان، معظمهم من النساء والأطفال.
إنها واحدة من أبشع الحروب في العصر الحديث، ومع ذلك ظل العالم الرسمي صامتاً، وكأن الضحايا بلا هوية. ذلك الصمت لم يكن مُجرَّد موقفٍ إنساني باهت، بل كان «فشلاً مؤسسياً» لمنظومةٍ أُنشئت لحماية الإنسان من ويلات القوة الغاشمة. فالأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية بدت عاجزة عن أداء رسالتها، فيما غاب مجلس الأمن الدولي تماماً عن مشهدٍ هو من صميم اختصاصه. القرارات عُطلت بالفيتو، والبيانات جاءت باردةً، فيما كانت النيران تلتهم الأبرياء.
والمفارقة أن الحكومات الغربية، التي استنفرت ضد غزو أوكرانيا، اكتفت هنا بالتبرير والصمت، فيما شعوبها خرجت بالملايين تهتف للعدالة، وترفع علم فلسطين من قلب العواصم الكبرى، لتقول للعالم إن الضمير لا يموت، حتى وإن خذلته السياسة.
إن ما جرى في غزة يجب أن يمثِّل لحظة مراجعة حقيقية «لحوكمة النظام الدولي». فالمشكلة لم تَعُد في المواثيق، بل فيمن يملك قرار تطبيقها. ولعل الوقت مناسب اليوم لأن يُبادر مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بالتنسيق مع الدول الصديقة والحليفة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى إطلاق حوارٍ عالميٍّ هادئ ومسؤول حول إصلاح بنية النظام الدولي الذي تآكلت مصداقيته بعد «الإبادة الجماعية» التي وصفتها بها الأمم المتحدة. ويُمكن أن تتضمَّن هذه المبادرة مقترحات عملية، مثل إعادة النظر في حق النقض (فيتو)، الذي عطَّل العدالة، وجعل العالم أسير إرادة خمس دول، وإنشاء هيئة تقييم مستقلة ذات صلاحيات تتبع الجمعية العامة، لمراجعة أداء مؤسسات الأمم المتحدة بشفافية، مع تقرير سنوي لمساءلة مجلس الأمن عن أسباب تعطُّل قراراته، وتوسيع نطاق المراجعة الداخلية، ليشمل «الأثر الإنساني» للقرارات، إضافةً إلى توسيع المشاركة داخل اللجان الرقابية – مثل لجان التدقيق والمراجعة الداخلية ولجان تقصي الحقائق – لتشمل تمثيلاً فاعلاً للدول ذات التمثيل المحدود في مراكز القرار الدولي، بما يضمن رقابة أكثر استقلالاً وعدالة داخل منظومة الأمم المتحدة.
وقد عبَّر سمو ولي العهد بدولة الكويت الشيخ صباح الخالد الصباح عن هذا التوجُّه بوضوح في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2024، حينما دعا إلى إصلاحٍ جاد للمنظومة الدولية، خصوصاً مجلس الأمن، وذلك لأن يكون شاملاً، شفافاً، كفؤاً، فعَّالاً، ديموقراطياً، وخاضعاً للمساءلة.
إن غزة اليوم ليست مأساة شعبٍ بعينه، بل هي اختبار أخلاقي عالمي، وامتحان للعدالة الدولية وصدق قيمها. فالعالم الذي لا تُحرِّكه دماء الأبرياء محكوم بأن يُكرر المأساة بمكانٍ آخر ووجهٍ جديد. وإذا لم تُستبدل ازدواجية المعايير بمنظومة حوكمةٍ عادلة وشفافة، فسيبقى الأمن الدولي شعاراً جميلاً على جدارٍ من رماد، وستبقى غزة الشاهدَ الأكثر صدقاً على زمنٍ فقد توازنه قبل أن يفقد إنسانيته.
*متخصص في الحوكمة وعضو معهد الحوكمة المعتمد في بريطانيا وأيرلندا