دنيا 4

نشر في 03-10-2025
آخر تحديث 02-10-2025 | 19:19
 حسن العيسى

تلك الأيام لم يكن يعرف شيئاً اسمه الموت، يتذكَّر أنه لم يكن أحدٌ يموت، المُحيطون معه، أمه، ووالده، وإخوته، وأقاربه، وأبناء وبنات الفريج، لم يمت أحدٌ منهم.

حدث مرة أن عمه تُوفي، أخبره والده بأن عمه سقط في الحمام ومات. سأل: وأين يذهب طالما لن أراه مُتكئاً على عصاه سائراً في السكة الترابية بطريقه للمسجد؟ يذهب إلى الجنة إن شاء الله.

عاد يستفسر: وماذا في الجنة؟ كُل شيء تتمناه «همبه (مانجو) طيور، ألعاب».

اقرأ أيضا
دنيا (3)
26-09-2025

قلَّب المسألة في رأسه الصغير، وردَّ: الأفضل أن أموت الآن، ولا أنتظر كل اليوم «الانتين والأربعنات» كي أحصل على كتكات وسينالكو من دكان حسينوه!

الآن لا يمضي يوم إلا ودائرة المعارف تضيق، وذات يومٍ قريب ستغلق على روحك، مشاري، علي، ناجي، حمد، عبدالعزيز... قائمة مَنْ يرحلون عبر خطوط «ون وي تكت» طويلة، أصدقاء، وأقارب، وبشر تعرفهم، وآخرون لا تعرفهم، ذهبوا، تلاشوا.

الطريق لعالم الفناء مفتوح و«سالك» لا يحتاج إلى مناقصة ترميم وإصلاح طُرق من وزارة الأشغال، وإغلاق حارة، وفتح أخرى.

أرنست بيكر مؤلِّف كتاب «إنكار الموت»، الذي يُعد أحد أفضل الكُتب التي تبحث في سيكولوجية النهاية، قال لزواره وهو يحتضر: «هذا اختبار لكُل ما كتبته عن الموت».

الآن بعد أن تدثرنا بمعطف الكهولة وهو يلتصق بالجسد المترهل، فلا يمكن نزعه، لا نملك غير الخيال حين يحلِّق ليس للغد، وإنما للماضي، إذا قلت الغد فأنت تستبشر بيومٍ آخر وحلمٍ جديد طازج. لا تملك مثل ذلك الامتياز الشبابي الآن، «انجعم» عليك أن ترضى بالقضاء والقدر، وإن لم ترضَ فاضرب رأسك بالحائط، ولا تخدع نفسك بوهمٍ زائل.

الشاعر روبرت فروست، قال: «لا يمكننا الهرب من معاناة الحياة، وإنما نتعايش ونتكيَّف معها. دائماً هناك الشعور بعدم الأمان والقلق من القادم، ولا ملجأ لك غير أجنحة الخيال».

الخيال بتعريف أكسفورد هو قُدرتنا على تكوين صورٍ أو أفكارٍ في نفوسنا غير موجودة فعلياً كي تُدركها الحواس. خيالنا يذهب للماضي ونحن كهول، في حين يروم بحثاً عن الغد الجميل في تلك الأيام الغابرة.

لقطة من فيلم «حكاية حُب» لـ «حليمو» يغني «بتلوموني ليه» فوق جسرٍ على النيل. نغم وصورة يقذفان بك بعيداً في وديان خيالات الأمس، شعر مريم فخرالدين معقوفاً للأعلى بخصلات ساقطة «ع الخدود يهفهف» برقبتها الطويلة المثيرة تضع معطفاً من الفرو على كتفيها. ماذا لو كان تصوير الفيلم بالصيف؟! ويعود بك الخيال «يطير»... إلى أين؟ لا تدري.

انفض خيالك الجامد في اليوم ومشاغله... اسرح، فأنت لا تملك غير السرحان للهروب من ثقل هذا الحاضر.

back to top