دنيا (3)
منزلهم ومنزل زوجة أبيه ومنازل أعمامه وكل الأقرباء والمعارف وغير المعارف والبراحة والسكك - سكيك - عالم كبير ليس له حدود لوعيه الصغير، كلها تشغل ذلك المربع المحدود الذي أقيم عليه مسجد الدولة. معقول أو غير معقول... عالم الخيال واسع والدنيا واسعة وجميلة في ذلك الزمن، أبداً لم تكن جميلة، كات قبيحة وقذرة، إنّما العمر كان جميلاً، ولا يملك اليوم غير الذكرى لزمن لن يعود.
إذا تخطّى عتبة البيت متجاوزاً الباب الخشبي المنقوش على طراز هندي في أعلاه أسياخ حديد تماثل قضبان الزنزانة، وسار في سكة ترابية على أطرافها وتحت الجدران الطينية لبيوت متلاصقة كانت تنبعث منها روائح عفن مختلطة ببقايا ما تفضلت به أمعاء بشرية، فقضاء الحاجات لها ضرورة، ودورات المياه إمّا كانت حفراً مخيفة في حوش البقر، تقوم الصراصير بقرون استشعارها بدور المايسترو وهي تتفرج على مسرحك حين تفرغ أمعاءك بدقات قلب متزايدة مرتعبة أن يحبو مقترباً منك في أي لحظة بيتهوفن الصرصور، أو قد يكون ذلك الصرصور المتحفز هو غريغور سامسا قفز لعالمنا هرباً من معاناة كافكا. أيضاً كانت دورات المياه أحياناً فوق السطوح حين يُفرز لها مكان مفتوح بالهواء الطلق، مثلما يفرز مكان آخر ليس ببعيد عنها للنوم في ليالي الصيف. ونعود لهذا السائر مع لحظات العمر لينعطف لليسار أو اليمين أو لا ينعطف، فالذاكرة تخون.
عند نهاية السكة هناك البراحة، عالم كبير، فيه كل الدنيا بكل نجومها وأقمارها ودكان «حسينوه» يقبع في منتصفها أو يسارها أو عند طرف اليمين، ليس مهما أين موقع هارودز البراحة، فقد كان بجوف الدكان بهجة تشعلها لمبة واحدة شديدة الإضاءة ينعكس نورها على صلعة العم حسينوه البيضاء، فتزداد قوة الإضاءة «دوبل»، أي أمر تريده معروض للبيع ويسيل اللعاب من كاكاو كتكات ومارس الثقيل، علج بوطقه، وكولا، ونامليت، وسينالكو، وحلاو يطحن الأسنان مستورد من مصانع سوق دعيج، وأشياء كثيرة غابت عن الذاكرة.
إذا كان بجيبه أربع آنات أو نصف روبية، فقد كان صاحبنا سيد زمانه يقدر أن يحصل على كولا وبرميت أو كتكاته... وإذا لم يكن بجيبه غير الآنتين، مصرفه اليومي، فالبركة في العم حسينوه، يسامح أو يقيّد بقية المبلغ المطلوب بسجل مكتوب في جوف الرأس اللامع، وما أكثر ما كان العم حسينوه ينسى، وما أكثر ما كان صاحبنا يتناسى.
كانت هناك حكايات كثيرة، هي وحي خيال وحنين لماضٍ ليس به من جمال غير فرح عابر ونسيان الوجود، فلا مسؤولية ولا قلق من قادم، فلم يكن يعي الزمن، ألم يخبركم من قبل أنه لا يوجد زمن، لا يوجد ماضٍ ولا مستقبل، وإنما هي حدث وأحداث في لحظات العمر يستحيل الإمساك بها، فهي إما تنقضي وتصبح ماضياً، أو لم تأتِ بعد فتكون مستقبلاً يحمل الأمل والقلق... الدنيا وجود ذكرى تبدأ مع الوعي وتُختم بنهايته.