المركز الوطني للحوكمة
شهد الجهاز الإداري للدولة خلال الأعوام الأخيرة إصدار الدليل الوطني للحوكمة المؤسسية عام 2021، ثم دليل العمل الإجرائي لفريق الحوكمة المؤسسية عام 2024، وهي خطوات وضعت إطاراً لمفهوم ومبادئ وممارسات الحوكمة في الجهات الحكومية.
وتم على إثرها تأسيس فرق حوكمة داخل بعض الوزارات. غير أن هذه الجهود تظل مبادرات متفرقة، لم تتحول بعد إلى بوصلة وطنية للحوكمة تقود المسار بشكل شامل وملموس الأثر على مستوى الدولة.
أصبحت الحوكمة اليوم معياراً عالمياً لقياس كفاءة الدول، فهي ليست إجراءات شكلية تُدرج في الأدلة أو البرامج التدريبية فقط، بل منظومة تقود صنع القرار الرشيد.
ومن دون وجود جهة عليا تنسّق جميع جوانب الحوكمة وتضمن ترابطها، تبقى المبادرات عرضة للتكرار وضعف الأثر، بينما يستمر المواطن في ملاحظة غياب الحصافة في بعض السياسات والقرارات، ووجود فجوات في الشفافية والمساءلة وجودة الخدمات.
من هنا تبرز الحاجة إلى تأسيس «المركز الوطني للحوكمة»، كجهة عليا تتبع مباشرة مكتب رئيس مجلس الوزراء بصفته، بما يمنحه الثقل السياسي والمؤسسي اللازم لإدارة هذا الملف المهم.
فالحوكمة تمس جميع قطاعات الدولة، ولا يمكن أن تُدار من داخل وزارة أو جهة واحدة «ديوان الخدمة المدنية»، بل تحتاج إلى مظلة مركزية تنسق وتوحّد الجهود.
ما الذي سيضيفه هذا المركز؟
أولاً، صياغة استراتيجية وطنية للحوكمة واضحة الأهداف ومحددة المؤشرات، تشمل جميع الوزارات والهيئات العامة، وتربط بين المبادرات القائمة ورؤية «الكويت 2035»، بحيث تتوحد الجهود وتتكامل.
ثانياً، قيام المركز الوطني للحوكمة بوضع آلية استباقية لحوكمة السياسات والقرارات تعتمدها كل جهة عامة عند إعداد سياساتها وقراراتها، بحيث تضمن هذه الآلية اتساق القرارات مع مبادئ الشفافية والمساءلة والفاعلية، وتتفادى تضارب الصلاحيات أو ازدواجية المسؤوليات.
وبهذا تصبح الحوكمة جزءاً من صناعة القرار منذ بدايته داخل كل جهة، من دون الحاجة إلى مراجعات لاحقة قد تبطئ الإجراءات.
ثالثاً، بناء منظومة قياس ومؤشرات أداء لمستوى الحوكمة في الجهات الحكومية، بحيث يمكن تقييم التقدم بشكل دوري وشفاف، ونشر تقارير وطنية حوكمة سنوية تُظهر مكامن القوة والضعف.
هذا النهج لن يعزز فقط المساءلة الداخلية، بل سيُعزز صورة الكويت في المؤشرات الدولية التي تقيس الحوكمة وجودة المؤسسات.
ومن الممكن في هذا الصدد أن يطرح المركز مسابقة سنوية لأفضل ثلاث جهات حكومية في الحوكمة بناءً على هذه المؤشرات.
رابعاً، تقديم الدعم والمشورة للقطاع الحكومي وغيره من القطاعات في مجال الحوكمة (جهة مشورة معتمدة).
كما أن نجاح هذا المركز يتوقف على أن يقوده خبراء وطنيون متخصصون في الحوكمة، يمتلكون التأهيل الأكاديمي والخبرة العملية، ويدركون خصوصية المجتمع الكويتي.
فالحوكمة ليست مجرد استنساخ لتجارب واستشارات تقنية مستوردة من الخارج، بل مشروع وطني يحتاج إلى كفاءات محلية مؤهلة لإرساء قواعد مستدامة. وعليه، إن إنشاء مركز وطني للحوكمة لن يكون مجرد إضافة إدارية، بل خطوة استراتيجية استباقية تعزز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، وتُظهر صورة إيجابية للكويت أمام المستثمرين والمنظمات الدولية.
فكما بدأت المقدمة بغياب البوصلة الوطنية للحوكمة، فإن هذا المركز هو الجواب الطبيعي لذلك السؤال المؤجل.
إنه البوصلة التي توجه الجهود، وترشّد السياسات والقرارات وتضع الكويت على مسار مؤسسي واضح نحو حوكمة راسخة ومستدامة.
* متخصص في الحوكمة وعضو معهد الحوكمة في بريطانيا وأيرلندا