ريستارت للحياة: من النفط إلى العقول... مشروع أمة لا تتوقف
في زخم التحولات العالمية، التي تلملم أوراقها على أعتاب عصر جديد، تبرز حقيقة مصيرية لا مفر من مواجهتها، موارد الأمس، التي قامت عليها نهضات الأمم، لم تعد بالضرورة هي ذاتها موارد المستقبل.
لقد تغيرت الخرائط الاقتصادية والجيوسياسية، وتشعّبت مسارات القوة والنمو، وما كنا نعتمد عليه بالأمس كركيزةٍ وحيدةٍ قد يصبح غداً مجرد ذاكرةٍ في سجل التاريخ. لذلك، فإن الدعوة إلى «إعادة تشغيل» موارد البلاد الحالية ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة استراتيجية تمثل جوهر بقاء الدول وازدهارها في رؤية متكاملة تضع الإنسان في القلب، والاستدامة كهدفٍ أسمى.
إن أولى خطوات هذا «الريستارت» تكمن في التشخيص الجريء والشفاف لواقع مواردنا، فكم من ثروة طبيعية نعتمد عليها وهي آيلة للنضوب؟ وكم من ثروة بشرية هائلة معطلة أو مهدرة لم نستثمرها بعد؟ إن الاعتماد على مورد واحد هو مقامرة بمصير أجيال قادمة. هنا، تبرز الحاجة إلى تحول استباقي ذكي يقوم على تنويع مصادر الدخل من خلال الانتقال من اقتصاد الموارد إلى اقتصاد المعرفة والإبداع.
ولتحقيق هذه القفزة النوعية، تبرز ركائز أساسية لأي استراتيجية جديدة، تبدأ بـ «إعادة تشغيل» المورد البشري عبر ثورة تعليمية تنتقل من التلقين إلى إنتاج المعرفة والابتكار، مع تمكين العقول الوطنية من صناعة الحلول لا مجرد استهلاكها، يليها «إعادة تشغيل» البيئة التشريعية والمؤسسية لتصبح حاضنة للإبداع والاستثمار مرنة وسريعة الاستجابة.
كما يشمل ذلك «إعادة تشغيل» مفهوم الأمن القومي ليتسع الأمن المائي والغذائي والطاقوي القائم على مصادر متجددة. ويبقى حجر الزاوية هو «إعادة تشغيل» العقد الاجتماعي بين القيادة والمجتمع، القائم على الثقة والشفافية والمشاركة. فالمعادلة واضحة، قيادة رشيدة تدير، ومجتمع واعٍ يشارك، وموارد بلادنا العربية يعاد تشغيلها لتناسب الحاضر والمستقبل.
وفي هذا الصدد، يحسب للعديد من الحكومات والدول الرشيدة أنها أدركت هذه المعادلة مبكراً، وشرعت بالفعل في تشغيل هذا الزر الحيوي. فهناك نماذج مشرفة بدأت بتحولات جذرية في رؤيتها للطاقة والتعليم والاقتصاد، استثمرت في الإنسان قبل الحجر، ووضعت خططاً طموحة لمستقبل أكثر تنوعاً ومرونة. هذه الدول لم تنتظر حتى تفرغ مواردها التقليدية، بل سبقت الزمن بفكر استباقي لتبني اليوم ما ستحتاجه غداً، وهي اليوم تجني ثمار رؤيتها تلك لتكون قدوةً عمليةً على أن إعادة التشغيل ممكنة ومجدية عندما تقترن بالإرادة السياسية الحقيقية.
إن هذه العملية ليست مجرد تغيير في السياسات، بل هي نقلة حضارية تمس جوهر كيفية إدارتنا لمقدراتنا. إنها استثمار في المرونة والقدرة على التكيف كأهم موارد القرن الحادي والعشرين.
هذا الأسبوع زر «ريستارت»... ليس لنعود إلى الوراء، بل لنحرر طاقات بلادنا الكامنة من أصفاد النمطية والقوالب البالية، وننطلق نحو آفاقٍ أرحب نصنع فيها مواردنا من فكر أبنائنا، وإرادة مجتمعاتنا، وليس فقط مما تختزنه أرضنا. فالثروة الحقيقية ليست فيما نملك، بل فيما نستطيع إبداعه وصنعه.
عندها فقط تتناغم القيادة مع التنمية، وتتكامل موارد بلادنا العربية مع ثرواتنا البشرية، لنرسم نموذجاً قادراً على الصمود والتجدد، مهما تبدلت الظروف وتغيرت موازين القوى، ولتبقى أوطاننا العربية في قلب الخريطة العالمية قوةً حية، متجددة، وفاعلة.
* إعلامية بحرينية