العقل حاضر في الغياب... وغائب في الحضور!

نشر في 26-09-2025
آخر تحديث 25-09-2025 | 18:20
 د. أحمد حسين الفيلكاوي

دفتر الحضور ممتلئ... لكن الفصل فارغ من التفكير.

​في كل صباح تُسجّل الأسماء. فلان؟ موجود. فلانة؟ حاضرة. لكن لا أحد يسأل: هل حضر العقل، أم أن الجسد فقط أدّى التحية؟

​في مشهد متكرر، يجلس الطالب في الصف، عيناه مفتوحتان، ودفتره على الطاولة، لكنه غائب تماماً، يفكر في مباراة، أو يغرق في الشاشة الصغيرة، أو يكتب شيئاً لا علاقة له بالمادة، لكنه محسوب ضمن الحضور.

​في دراسة نشرتها Harvard Business Review عام 2023، تبيّن أن أكثر من 58 بالمئة من الطلاب الجامعيين يحضرون الصفوف دون أي تفاعل فعلي، وأن مفهوم «الحضور الذهني»، أصبح التحدي الأكبر في العملية التعليمية.

​نحن نُدير التعليم كما لو أنه حفل غياب رسمي، نبحث عن الكرسي المشغول، لا العقل المنشغل. نعاقب المتغيب عن الجسد، ونغضّ الطرف عن المتغيب عن الوعي.

في فصول كثيرة، يُمدَح الطالب الهادئ، لا لأنه يشارك، بل لأنه لا يُزعج! ويُثنَى على «المنضبط»، الذي لم ينطق بكلمة طوال الفصل، حتى لو لم يفهم شيئاً مما قيل.

​العقل لا يُقاس بالحضور، بل بالتماس. فهل لمس المعلومة؟ هل تحرّك بالسؤال؟ هل ارتبك بالفكرة؟ أم أنه حضر بصمت، وخرج كما دخل؟!

​في حصة من الحصص، طلب المعلم من الطلاب أن يناقشوا فكرة خارج الكتاب، ساد الصمت. البعض خاف من الخطأ، البعض لا يعرف رأياً، والبقية ينتظرون «النموذج الصحيح». هكذا نكتشف أن الحضور لا يعني الفهم، بل أحياناً يعني فقط: توقيت الجلوس والانصراف.

​في تقرير صادر عن منظمة OECD عام 2022، أشار إلى أن قلة المشاركة الصفية وانعدام التفاعل مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمعدلات غياب غير مُعلن يسمّى «الغياب الصامت»، وهو شكل من أشكال الحضور الجسدي مع انفصال ذهني كامل.

​كم عقلاً غاب اليوم وهو جالس أمامنا؟ وكم فكرة وُئدت لأنها لم تجد من يستمع؟ وكم طالباً تفوّق بدرجة، وغاب بفكره طوال العام؟

​نحن لا نُدرّس العقل، بل نُسجّل عليه حضوراً شكلياً. وحين نُخرج جيلاً يتقن الحضور، ولا يُجيد الانتباه، فنحن لم نُعلّمه، بل درّبناه على التمثيل.

​الوعي لا يأتي من الحضور فقط، بل من السؤال، من الخلاف، من التفاعل، من صوت الطالب حين يقول: «أنا لا أفهم، وأريد أن أفهم». هذا هو الحضور الحقيقي: أن يهتز عقل الطالب أمام فكرة، لا أن يجلس صامتاً كأنه جدار.

​فيا أيها التعليم، كفّ عن عَدّ الأجساد، وابدأ بوزن العقول. وابحث عن الغياب الحقيقي في صمت الذين لا يُفكّرون.

​الحل ليس في ورقة الحضور، بل في إشعال العقول، فلنُعد تصميم حصصنا لتكون مختبرات تفكير لا قاعات إنصات، ونمنح الطالب الحق في السؤال قبل الإجابة، وفي النقاش قبل التلقين.

​ليبدأ كل معلم بحساب عدد الأسئلة التي طرحها الطلاب لا عدد الكراسي المملوءة، وليقيس نجاحه بعدد العقول التي استيقظت في حصة واحدة، لا بعدد الأجساد التي قالت: «حاضر».

​عندها فقط يصبح الحضور حضوراً حقيقياً، وتعود الفصول ممتلئة بالحياة، لا بالصمت.

back to top