موقع/ لوكيشن

نشر في 19-09-2025
آخر تحديث 23-10-2025 | 20:30
 سليمان البسام

«لو - فقط - نظرتِ من بعيد لرأيتِ كيف أن

الأراضي من جبل أرارات إلى سيناء

أن مدن صور وحلب والبصرة وحائل وأسوان وبورسعيد وغزة

أن كل ما يُعرف بـ «المنطقة»

قد أصبح اليوم

مستساغاً أكثر بالنسبة لِـ

معترَفاً به أكثر من قِبَل

منسجماً أكثر مع:

مفهوم الـ «لوكيشن».
**

أحمد، بدر، جهاد، عبدالله، مؤمن، هُمام.. شهداء العدوان الإسرائيلي على الدوحة الأسبوع الماضي، أسماء مُستحبة في الإسلام، عزيزة على قلوب العرب بما تحمله من معاني الإيمان والشجاعة والنضال والإخلاص.. ذهبوا للقاء ربهم مضرجين بدمائهم، كلٌ منهم شاهد قبرٍ صامت حيث كانت ذات يومٍ حياة.

في تعليقه على الانتهاك الصارخ لسيادة قطر، أعرب الرئيس الأميركي ترامب عن شعوره «بعدم ارتياح شديد» إزاء «موقع/ لوكيشن» الهجوم، وهو تعبير يجرِّد المكان من ذاكرته، ويختزل تاريخه بمجرد إحداثيات على خريطة.. أحداث مجهولة على أرض مجهولة.. ما هو إذاً «موقع/ لوكيشن» قطر؟

في منتصف القرن الأول الميلادي، أطلق المؤرخ الروماني بليني الأكبر على سكانها «الكاثاريون»، رسمها بطليموس على خريطته باسم «كتارا»، وفي القرن الثامن عشر أصبحت «كاتارا» التهجئة الأكثر شيوعاً ثم قطر.. كل اسمٍ منها يجسّد تاريخ شعوب، وتجارة، وقوافل، وأسواق، ومواسم بحر وصيف.. قرون من الحياة والصمود، وليس مجرد «موقع/ لوكيشن» على خريطة.

تشكّل قرية كتارا الثقافية التي تساقطت قربها الصواريخ الإسرائيلية تجسيداً لطموحات قطر كمركز دولي للحوار والفن والتبادل. حارات مظللة، متاحف ومراكز سينمائية، شاطئ مزيَّن بالأعمال الفنية، مسرح ضخم، وشارع كامل يحمل اسم شكسبير.

«كاتارا» مشروعٌ فخور بُني ليحاور العالم كجزء من استراتيجية بارعة انتهجتها دولة صغيرة باحثة عن ملاذ في مواجهة العواصف، اختارت بناء دفاعاتها عبر استثمارات ضخمة في الإعلام والرياضة والدبلوماسية، وعززتها باستضافة أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، وتوّجتها أخيراً بتقديم طائرة بوينغ كهدية للرئيس الأمريكي.. كل هذه الاستراتيجية انهارت حين اختُزلت في كلمة واحدة: «موقع/ لوكيشن». ضرب قطر كان أكثر من مجرد انتهاك فاضح للسيادة، بل عدوان على الخيال وعلى حلم دولة خليجية صغيرة بأن المنصات العالمية يمكن أن تُمثّل حماية استراتيجية.

في مصادفة غريبة، كاتارا أيضاً اسم شخصية في رسوم متحركة أميركية من إنتاج شركة باراماونت (Paramount Pictures)، التي رفضت هذا الأسبوع مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية المتواطئة في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

كاتارا في قصة باراماونت الخيالية هي طفلة تستخدم الماء لتشفي شعبها وتدافع عنه. لكن عندما تُهاجم كاتاراتنا بصواريخ إسرائيلية، فإن أميركا تغضّ الطرف، بل وتشترط عدم ذكر إسرائيل في قرار مجلس الأمن بإدانة العدوان «المبني للمجهول» على قطر؟!

وهنا السؤال: مَن سيكتب قصة العدوان؟ هل ستُروى بلغة شركة أفلام أميركية؟ أم أننا سنطلق عنان أصواتنا المكتومة مدركين أن كلماتنا وأسماءنا وقضية فلسطين هي آخر ما سيتبقى لنا من «موقع/ لوكيشن»؟!

** من مسرحية «صَمْتْ» (MUTE) للكاتب - بتصرف

* كاتب ومخرج مسرحي

back to top