وزارة الصحة... من الورق إلى لوحة المؤشرات (الجزء الثالث)
• دعوة إلى إصلاح جريء ومسؤول في العهد الجديد
أولاً: إلى من يعنيهم الأمر
أتوجه بهذا المقال من قلبٍ صادقٍ إلى كل من يحمل همّ هذا الوطن ويسعى لنهضته:
• إلى سمو رئيس الوزراء والحكومة الرشيدة التي رفعت شعار «لا حماية لفشل، ولا حصانة لتقصير».
• إلى معالي النائب الأول وزير الداخلية وإلى رئيس جهاز متابعة الأداء الحكومي الذي ينتظره دور محوري في مراقبة الإنفاق وربط المكافأة بالإنجاز والمساءلة بالتقصير.
• إلى قيادات وجموع وزارة الصحة التي يقع عليها عبء النقد الذاتي واقتلاع النظام الإداري القديم الذي تجاوزته دول الخليج ولا نزال غارقين فيه.
اليوم لا نحتاج إلى تجميل الخطاب، بل إلى تحويل الورق إلى مؤشرات، والوعود إلى نتائج قابلة للقياس.
ثانياً: الإدارة المالية في وزارة الصحة... مؤشرات تغيب ومليارات تُهدر
أكثر من 3 مليارات دينار تُنفق سنوياً على وزارة الصحة، دون لوحة مؤشرات تُظهر: أين ذهب المال؟ وما العائد الصحي؟
1- أين ما تطبقه دول الخليج من نماذج مالية صارمة توضح كفاءة الإنفاق التشغيلي بل وتنشره علناً مثلما تفعل الإمارات والسعودية في برنامج «أداء»، ومثال لذلك قياس متوسط تكلفة زيارة العيادة أو الدخول إلى المستشفى؟
2- التزام المشاريع بميزانياتها
كم عدد مشاريع وزارة الصحة التي تجاوزت ميزانيتها الأصلية أو تأخرت في تسليمها؟
في الإمارات، يُحاسب المسؤول إذا انحرفت التكلفة أو الجدول الزمني أكثر من 10%.
3- الهدر في المشتريات
ما حجم الأدوية المنتهية؟ كم قيمة الأجهزة غير المستخدمة؟ كم عقداً تكرر لنفس الخدمة؟
4- سرعة الدورة المالية
في السعودية، لا يجوز أن تتجاوز دورة المعاملة المالية 14 يوماً، أما لدينا فالمعاملة الواحدة قد تدور في «ماراثون توقيعات» لأشهر، دون أي محاسب، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
ثالثاً: الفعالية مقابل الكفاءة
أحد أبرز مظاهر الخلل هو الخلط بين الفعالية والكفاءة.
• الفعالية (Effectiveness): هل تحققت الأهداف؟ هل انخفضت الوفيات؟ هل تقلصت قوائم الانتظار؟
• الكفاءة (Efficiency): هل تحقق الهدف بأفضل استغلال للموارد وأقل تكلفة؟
ومثال ذلك قد تكون الوزارة «فعّالة» بزيادة العمليات، لكنها ليست «كفؤة» إن تضاعفت الكلفة بلا عائد، والعكس صحيح: قد تقلل الإنفاق، لكنها تفقد الفعالية إن انتظر المريض عاماً كاملاً للجراحة. النجاح الحقيقي هو تحقيق الهدف بأقل تكلفة وأفضل استغلال للموارد.
رابعاً: الإدارة الإدارية... الغائب الأعظم عن الرقابة
ما لم يُذكر في أي عرض رسمي، هو: من يُقيّم الإداريين؟ ومن يقيم مؤشرات أدائهم؟ ومن يُحاسبهم؟ ومن يعرف إنتاجيتهم؟ ومن يقيم انضباطهم الذي يجب ألا يقتصر على البصمة، في حين أن الإمارات تطبق «نظام النجوم»، وتُنشر تقييمات الموظفين ومراكز الخدمة علناً، مثل عدد المعاملات التي ينجزها كل موظف يومياً؟ وكذلك زمن إنجاز المعاملة الذي لا يمكن قبوله وخاصة للمرضى أو المتقاعدين.
خامساً: الصحة الرقمية والذكاء الاصطناعي
يجب الإسراع في تطوير ملف الصحة الرقمية والذكاء الاصطناعي أسوة بالسعودية والإمارات، فالتحول الرقمي لا يعني إطلاق تطبيقات جوال فقط، بل إنهاء الورقيات في جميع المعاملات الإدارية، فقد أعلنت الإمارات نهاية المعاملات الورقية منذ 2023، بينما وزارة الصحة لدينا لا تزال تغرق في ملفات مطبوعة مكدسة، كما تأخرنا كثيراً في استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الخدمات العلاجية والوقائية والعلاج المشخصن والجينات والروبوت الجراحي الذي تقدمت به دول الخليج كثيراً.
سادساً: لماذا لا يُحاسَب أحد داخل الوزارة؟
تُفاخر وزارة الصحة، مشكورة، بعقوبات رادعة على القطاع الصحي الخاص. وتُصدر بيانات حازمة عن مخالفات «عيادات التجميل» أو «مستوصفات مخالفة».
لكن السؤال الكبير هو: لماذا لا نسمع عن أي عقوبة على عيادة في مستشفى حكومي أحدثت خطأ جسيماً؟ لماذا لا تُنشر بيانات عن أدوية فاسدة أو أجهزة معطلة أو مكدسة في المخازن أو المستشفيات الحكومية؟
لماذا لا يُعلن عن تحويل أي موظف أو مدير حكومي للتحقيق في تقصير مالي أو طبي أو إداري؟ العدالة في الرقابة تبدأ من الداخل، ولا يمكن أن تُقنع الناس بأنك تحاسب الآخرين وأنت تعفي نفسك، خاصة أن الشكاوى والتجاوزات ليست تكهناً وإنما جلها موثق في إدارات الجودة وأجهزة التفتيش!
سابعاً: بطاقات الأداء المتوازن ومؤشرات الأداء هي طريق الإصلاح
ما نحتاجه ليس مؤتمرات إعلامية، بل مؤشرات حقيقية مثل «بطاقة الأداء المتوازن» لكل مسؤول، تكون على مكتب سمو رئيس مجلس الوزراء، وزير الصحة، وتُربط مباشرة بجهاز مراقبة الأداء الحكومي. هذه اللوحة يجب أن تتضمن، على الأقل:
1. مؤشرات الأداء الطبي: مثل عدد العمليات، نسب الأخطاء، والمضاعفات... الخ.
2. مؤشرات الأداء المالي: كلفة الخدمات، حجم الهدر، الأدوية المنتهية... الخ.
3. مؤشرات الأداء الإداري: إنتاجية الموظف، زمن المعاملة، الانضباط.
4. مؤشر رضا المستفيد: سواء كان مريضاً أو موظفاً أو طبيباً.
بطاقة الأداء المتوازن أداة حوكمة من الغفير إلى الوزير لضمان إصلاح حقيقي، وحوكمة رشيدة يجب تبني بطاقة الأداء المتوازن (Balanced Scorecard)، التي تقيس الأداء السابق، ويجب أن تُطبق هذه البطاقات على الجميع: وزير الصحة، القيادات العليا، مديرو المناطق والمستشفيات، مديرو الإدارات المركزية، ليصبح كل مسؤول خاضعاً للقياس والمساءلة، فلا أحد فوق المساءلة في العهد الجديد.
ثامناً: غياب المؤشرات السابقة يعني عملياً غياب التخطيط الرشيد والشفافية والحوكمة
• ويؤدي إلى تراكم الأدوية المنتهية والتي قد تصل إلى عشرات الملايين من الدنانير.
• خلل التعيين في القوى العاملة وخلل التوزيع غير المتوازن لهم... الخ.
• عدم كفاءة أو جودة إدارة المستشفيات.
• خلل في تقييم الأداء الطبي والتدريب والجودة وانتشار العدوى.
• العلاج في الخارج وغياب مؤشرات النجاح أو التكلفة.
• العهد الجديد لا ينتظر
إن العهد الجديد الذي نعيشه، ليس عهد تصفية حسابات، بل عهد تصفية مشاكل متراكمة، في القطاع الحكومي وليس الخاص فقط. وتجاهل الصحة هذا المناخ الإصلاحي هو إضاعة فرصة تاريخية لن تتكرر.
كما اقتُلعت الشوارع المتهالكة وكُشفت ملفات الفساد في الجمعيات والعدل والجمارك، فإننا ننتظر من وزارة الصحة اقتلاع جذور مشاكلها. لا ترقيع ولا تدوير ولا تجميل إعلامي، بل مؤشرات استراتيجية وتشغيلية شفافة تُقاس بالأرقام وتُحاسب بالنتائج. وزارة الصحة اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن تُقاس وتُحاسب وفق العهد الجديد... أو تظل أسيرة للإعلام وشعارات الماضي.
الكويت تستحق، والفرصة لن تتكرر، فهل أنتم مستعدون؟
* وزير الصحة الأسبق