بين «الخطة» و«الاستراتيجية» و«الاستدامة» في «الصحة»... أين الحقيقة؟ (الجزء الثاني)
في قراءتي المتأنية لما نشرته وزارة الصحة مؤخراً تحت عنوان «خطة استراتيجية لخدمات صحية متطورة ومستدامة»، أجد من واجبي، كمتخصص مطّلع على نظم التخطيط الصحي وتطبيقات الاستراتيجية في القطاع الطبي، أن أقف عند هذا العنوان وقفة تحليل وتفنيد، لما يحمله من إيحاءات ومضامين، قد يُفهم منها أن المنظومة الصحية الكويتية دخلت مرحلة نوعية متقدمة من التنظيم والتخطيط، ولكن عند التدقيق العلمي فيما تم طرحه فعلياً، نجد أن:أولاً: ما طُرح لا يعد «خطة» بالمعنى العلمي
الخطة (Plan) في العلوم الإدارية والقطاع الصحي تُعرف بأنها «وثيقة مفصّلة تحتوي على أهداف محددة وقابلة للقياس، ضمن جداول زمنية واضحة، بموارد مرصودة، وآليات تنفيذ ومتابعة ومؤشرات أداء (KPIs)، توضح المسؤوليات والمخاطر والإجراءات التصحيحية».
ما ورد في تصريحات وزارة الصحة حتى الآن يفتقر إلى أبسط شروط الخطة بالمعنى الفني:
شروط الخطة الناجحة – وهي غير متوفرة هنا:
1. وجود أهداف قابلة للقياس (SMART objectives)
لا توجد نسب مستهدفة لخفض أمراض مزمنة، أو تقليص قوائم الانتظار، أو تحسين مؤشرات الوفيات أو المضاعفات الطبية وغيرها كثير.
2. جدول زمني (Timeline)
لا يوجد متى يبدأ التنفيذ ومتى ينتهي، ولا تسلسل مراحل الإنجاز.
3. تحديد مسؤوليات التنفيذ والمتابعة (Governance & Accountability)
لا نعلم ما الجهة المسؤولة، ولا هل هناك نظام رقابي مستقل.
4. مؤشرات أداء رئيسية (KPIs)
لا نجد أي مؤشر لرصد التحسن في الجودة أو التكلفة أو رضا المرضى أو تقليص الكم الهائل من الأدوية والأجهزة المنتهية الصلاحية وغيرها.
5. مرونة التعديل والتقييم (Monitoring & Evaluation)
لم يُذكر وجود نظام لمراجعة الخطة وتصحيح الانحرافات خلال التنفيذ.
ثانياً: استخدام كلمة «استراتيجية» لا يتطابق مع محتوى ما طُرح
الاستراتيجية (Strategy) هي مصطلح له وزن علمي وإداري، يُشير إلى:
«توجه شامل طويل المدى، يربط بين الواقع والتحديات والموارد، ويُبنى على تحليل دقيق للوضع الحالي (SWOT analysis)، ويهدف إلى إحداث نقلة جوهرية في المنظومة مع مرونة التكيّف».
أما ما طرحته الوزارة فهو تجميع لعناوين مشاريع قديمة (مستشفيات، توسعات، افتتاحات مؤجلة)، ولا يحمل رؤية استراتيجية تُعالج التحديات الحقيقية مثل:
• خروج 2 مليون وافد إلى مستشفيات الضمان دون أن تُحدّث الوزارة نماذجها التشغيلية... ودور الوزارة في إنجاح هذا المشروع الوطني.
• ازدواجية التغطية بين وزارة الصحة ومؤسسات تأمين وافدين دون تنظيم واضح.
• الهدر المالي والتشغيلي الناتج عن مستشفيات ضخمة دون إنتاجية أو كفاءة تشغيل.
• تضخم القوى العاملة الإدارية مقابل كفاءة منخفضة مهنية وغياب التقييم.
• هناك ما يزيد على خمسمئة منشأة صحية من مستشفيات وعيادات للقطاع الخاص. ما دورها وما موقعها في استراتيجية الوزارة؟ لم تذكر مطلقاً.
الاستراتيجية تتطلب قرارات هيكلية، كتغيير دور الوزارة من «مشغّل» إلى «منظم»، ودمج القطاع الخاص، واعتماد نموذج تأميني شامل. لا شيء من هذا طُرح.
ثالثاً: أين «الخدمات المتطورة والمستدامة»؟
الشطر الأخير من العنوان يطرح شعارات صحية حديثة، ولكن عند مقارنة هذه الادعاءات بالواقع، نجد تناقضاً صارخاً.
1. خدمات متطورة؟ أين؟
• مستشفى جابر جاهز منذ أكثر من 7 سنوات، ونصفه لا يعمل.
• مستشفى الفروانية الجديد يعمل بأقل من طاقته منذ الافتتاح.
• مستشفى الصباح الجديد مُنجز منذ 3-4 سنوات ولم يُفتتح.
• مستشفى الولادة الجديد يفتقر إلى نظام إلكتروني متكامل ويعمل بشكل تقليدي.
ولم تعمل غرفة عمليات واحدة أو غرفة مريض واحدة منذ افتتحه سمو ولي العهد قبل شهور عدة إلى الآن... (هل يعلم المسؤولون بذلك).
• مستشفى العدان الجديد مكتمل منذ سنوات ولم يُشغّل فعلياً إلا بعد ٤ سنوات.
• مستشفى الجهراء نُقل إليه القديم ولكن دون تطوير حقيقي في الأداء. (بعد تعثر الاتفاق مع الشركة الكورية وغيرها).
• مستشفى الأميري الذي يصرخ ويئن المواطن عند دخول الحوادث وينتظر وسط جموع البشر... وغيرها.
فأين التطور؟ لا رقمنة شاملة، ولا نظم ذكاء اصطناعي، ولا مراكز تميز معترف بها عالمياً (مثل التي تطالب بها الوزارة مستشفيات ومراكز القطاع الخاص).
2. خدمات مستدامة... على أي أساس؟
الاستدامة (Sustainability) تتطلب:
• خطط تمويل صحي طويل المدى.
• كفاءة تشغيل وتكاليف معقولة.
• توازن بين العرض والطلب.
• ربط الإنفاق بالمخرجات (Value-Based Healthcare).
لكن ما لدينا هو:
• إنفاق متضخم دون تقييم مخرجات.
• مبانٍ ضخمة لا تعمل بنصف كفاءتها
• أطباء وفنيون دون تقييم أداء.
• نظام غير قابل للصمود إذا تغيّرت أسعار النفط أو ازدادت فاتورة العلاج في الخارج.
رابعاً: القرار بإنشاء مدينة طبية في الأحمدي مثال على غياب الرؤية
أن تُحوَّل منطقة الأحمدي إلى «مدينة طبية متكاملة»، بينما منطقة الصباح الصحية قائمة ومهيأة لذلك منذ سنوات، فيه طرح عشوائي غير مبني على تحليل عبء المرض أو الجدوى الاقتصادية أو توزيع الخدمات. لماذا لم يتم الاستثمار في تطوير «الصباح»؟
خلاصة علمية: العنوان لا يطابق المضمون
العنوان الثلاثي الذي تبنّته وزارة الصحة (خطة استراتيجية لخدمات صحية متطورة ومستدامة)، لا يمتّ للواقع بصلة من حيث:
• الخطة: غير مكتملة العناصر.
• الاستراتيجية: لا تحمل رؤية تحويلية.
• الخدمات المتطورة والمستدامة: لا تقوم على مؤشرات أو نماذج تشغيلية حديثة.
نأمل أن يتجه الخطاب الصحي القادم نحو خطط حقيقية شفافة، تُبنى على تحليل علمي للواقع، وتربط بين التحديات والموارد، وتخضع لمتابعة ومساءلة ومؤشرات أداء قابلة للنشر والمراجعة الدورية.
لا نقلل من جهود المخلصين من الأطباء الفردية وتفانيهم بالعمل وإنما نحث القياديين والإعلاميين على تغيير نمط التفكير والنهج والعمل... إن كل يوم يفوت في عهد الإصلاح يعد خسارة.
* وزير الصحة الأسبق