خارطة طريق وزارة الصحة... رؤية بلا جذور! (الجزء الأول)

نشر في 27-08-2025
آخر تحديث 26-08-2025 | 18:44
 محمد الجارالله

أزعم أنني من أكثر الحريصين على نجاح العهد الجديد، لا حباً في النقد، بل إيماناً بأن الإصلاح الجذري لا يتم إلا بالصدق في التشخيص، والجرأة في الطرح، والشفافية في المساءلة. ولذلك أُزجي النصح سريعاً، ولكن الأمر يحتاج إلى مؤتمر وطني صحي يعاد فيه تعريف دور الوزارة في ظل التحولات المقبلة.

وإذ أُحيي الجهود المخلصة التي بُذلت في العرض المرئي لخارطة الطريق الصحية الوطنية من قبل الناطق الرسمي لوزارة الصحة، إلا أن العرض - وإن زخِر بالمشاريع - أعاد تدوير سرديات قديمة، تغفل عن الحدث المفصلي الأهم في تاريخ المنظومة الصحية الكويتية، وتكتفي بتلميع القشرة دون النبش في جذور الخلل.

أولاً: تجاهل التحوّل الجوهري في تاريخ الوزارة

أكبر تحول بنيوي تشهده وزارة الصحة منذ نشأتها يتمثل في اقتراب خروج قرابة 2 مليون وافد من عباءتها إلى مستشفيات الضمان الصحي، وهذا التحول يترتب عليه:

1. انخفاض حاد في عدد مراجعي المرافق الحكومية.

2. إمكانية إعادة توزيع الكوادر البشرية والفنية.

3. خفض فعلي للميزانية التشغيلية.

4. تحوّل الوزارة إلى جهة رقابية وتنظيمية لا مشغّلة.

ورغم ذلك، لم يأتِ العرض الرسمي على ذكر هذا التحول المحوري لا من قريب ولا بعيد، فهل يعود ذلك إلى غياب الرؤية، أم إلى مقاومة داخلية لهذا الانتقال الطبيعي في هيكل الوزارة؟

ثانياً: ميزانية متضخمة بلا مخرجات قابلة للقياس

تستهلك وزارة الصحة ما يقارب 10٪ من الميزانية العامة للدولة، أي ما يزيد على 3 مليارات دينار سنوياً، لكن أين مؤشرات العائد الصحي من هذا الإنفاق؟ هل هناك تراجع في معدلات الوفاة؟ في الإعاقة؟ في عبء الأمراض المزمنة؟

المفترض أن يرافق هذا الإنفاق لوحة مؤشرات أداء واضحة، كما تفعل الإمارات والسعودية، ومن أبرزها:

• مؤشر كفاءة الإنفاق: نسبة ما يُصرف إلى الخدمات المقدمة فعلياً.

• مدة الدورة المالية: الزمن بين اعتماد الطلب وصرفه.

• مؤشر الإنفاق على الأدوية المنتهية: كم تُهدر الوزارة سنوياً على مخزون لا يُستخدم؟

• نسبة المشتريات الإلكترونية مقابل الطارئة: مقياس للحَوْكمة.

• مؤشر رضا الشركاء الماليين والموردين عن كفاءة التعامل.

غياب هذه المؤشرات يُبقي الوزارة في دائرة الإدارة الانطباعية لا المحاسبية.

ثالثاً: الأداء الطبي... أرقام غائبة وشبهات مستمرة

في الأقسام الطبية، لا سيما الجراحة، هناك مؤشرات معتمدة عالمياً مثل:

1. عدد العمليات التي يُجريها كل طبيب شهرياً حسب درجته.

2. نسبة المضاعفات بعد الجراحات مقارنة بالمعايير الدولية.

3. نسبة الفحوصات التي أُجريت دون مبرر سريري موثّق.

4. عدد الأخطاء الطبية المبلّغ عنها، وما إذا كانت الوزارة تحاسب كوادرها كما تفعل مع القطاع الخاص.

5. نسب صرف الأدوية بدون مبرر، ودرجة التزام الأطباء بالبروتوكولات.

ومع ذلك، فإن الإعلام الصحي الرسمي يكتفي باستعراض الإنجازات، دون كشف هذه البيانات الجوهرية، وكأن الانضباط يُطلب فقط من القطاع الخاص، بينما لا تُنشر أخطاء المؤسسات الحكومية مهما بلغ حجمها!

رابعاً: الإدارات الإدارية... غياب كامل للمساءلة

من المفارقات أن الإدارات غير الطبية - كالشؤون الإدارية - تمثل العمود الفقري للتشغيل، لكنها تفتقر إلى أي نظام لقياس الأداء. هل يعلم أحد كم عدد المعاملات التي ينجزها الموظف الإداري في اليوم؟

في دراسات ميدانية سابقة، تبين أن بعض الموظفين بالمستشفيات لا يعمل فعلياً أكثر من 10 دقائق يومياً، رغم أن دوامه 8 ساعات. لا وجود لمؤشر إنتاجية، ولا محاسبة، ولا رقابة بالبصمة الإلكترونية، كما هو مطبق في السعودية أو الإمارات.

في النظم المتقدمة، تتم مراقبة:

• عدد المعاملات المنجزة لكل موظف يومياً.

• معدل الغياب والتأخر.

• زمن إنجاز المعاملة.

• نسبة الأخطاء الإدارية.

• مدى التحول الرقمي.

• مؤشر رضا المستفيدين الداخليين (الكوادر) والخارجيين (المرضى).

هذه الأمور لا تزال غائبة تماماً عن رؤية الوزارة.

خامساً: من العمل الإعلامي إلى العمل المؤسسي

لا يمكن أن تتطور وزارة الصحة ما دامت تعيش في زمن «الإنجازات الإعلامية». بناء جناح، أو توقيع اتفاقية، أو استقطاب طبيب زائر، ليست إنجازات هيكلية. الإنجاز الحقيقي هو عندما تقل حالات بتر الأطراف بسبب السكري، أو تقل الإحالات للعلاج بالخارج، أو تنخفض معدلات الانتظار للعمليات الجراحية.

سادساً: العهد الجديد... فرصة لا تُقدر بثمن

أتوجه هنا إلى الحكومة الرشيدة، وإلى جهاز متابعة الأداء الحكومي، وعلى رأسه الشيخ أحمد المشعل الصباح، الرجل المجتهد والمخلص، لأقول إن ما يُطرح إعلامياً لا يعكس عمق ما يحتاجه القطاع الصحي في هذه المرحلة.

كما أن على وزارة الصحة أن تتوقف عن التركيز الإعلامي المفرط على معاقبة القطاع الصحي الخاص، في حين لا نسمع عن محاسبة مسؤول أو طبيب في مستشفى حكومي، رغم وجود الأخطاء الجسيمة، سواء في العمليات أو في سوء الإدارة.

خاتمة الجزء الأول

يا معالي وزير الصحة، ويا قيادات الدولة الكرام...

ما لم تعلن الوزارة بداية حقيقية لزمن التحول المؤسسي الحقيقي، فإننا سنُعيد تكرار أخطاء العقود السابقة.

وما لم تُبنَ خطط الوزارة على مؤشرات أداء قابلة للقياس والمحاسبة، فإن الميزانية ستُهدر، والمخرجات ستبقى ضعيفة.

العهد الجديد فرصة نادرة... فلنُحسن اغتنامها.

هذا المقال أكتبه نصيحة مخلصة، وجرس إنذار مبكراً، وآمل أن تجد فيه وزارة الصحة ما يُعينها على التصحيح، لا ما يُزعجها بالنقد.

*وزير الصحة الأسبق

back to top