من صيد الخاطر: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

نشر في 29-08-2025
آخر تحديث 28-08-2025 | 19:00
 طلال عبدالكريم العرب إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإنَّ فساد الرأي أن تتردَّدا

بيت شعر قاله الخليفة أبوجعفر المنصور، فأصبح مثلاً يتداول حتى يومنا هذا، ووراء هذا البيت حادثة حصلت في بدايات الدولة العباسية.

كان الخليفة المنصور قد أنفذ يقطين بن موسى لإحصاء ما في خزائن عبدالله بن علي، بعد أن هزمه أبومسلم الخرساني أحد قادة جيوشه، فقال أبومسلم ليقطين متذمراً من الخليفة ومستهيناً به: أيأمننا ابن سلامة، وهي أم المنصور، على الدماء ولا يأمننا على الأموال؟ فكتب يقطين إلى الخليفة يحذّره من نوايا خبيثة لأبومسلم قائلاً:

أرى جذعا إن يثن لا يقو ريّض عليه، فبادر قبل أن يثني الجذع

والريّض هنا قد يُقصد به أنه لم يشتد عوده بعد، فعليك به قبل أن يشتد.

بيّت المنصور النية لقتل أبومسلم مخافة من أن ينقلب عليه، إلا أن عيسى بن علي كتب إليه ناصحاً إياه بألا يتعجل:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبّر فإن فساد الرأي أن تتعجلا

فرد المنصور:



إِذا كنتَ ذا رأيٍ فكنْ ذا عزيمةٍ فإِن فسادَ الرأيِ أن تترددا

ولا تمهلِ الأعداءَ يوماً بغدوةٍ وبادِرْهم أن يملكوا مثلهَا غدا


كان رد الخليفة أبوجعفر المنصور حازماً جازماً لما يجب أن يكون عليه الحاكم، فلا يتردد في قرار، ولا يلجأ إلى تسويف، وإلا أدى إلى إضعاف هيبة الدولة، وتقويض أركانها.

ووصف أحد الحكماء ذوي العزم بقوله: «إن العزمَ بضاعة أهل الكمالِ، وصنعة أفذاذِ الرجالِ، يَعزمون أمورهم بقوةِ اليقين، ويَحزمون أنفسَهم بجودة التمكين، فيسيرون في نيل المآربِ سَيْرةَ الواثقِ، وينشُدُونَ المطالبَ بالحقائقِ، لا يعتري سبيلَ السائرِ منهم صغيرٌ حقيرٌ، ولا يحجبهم عنْ مرادٍ تنفيرٌ وتثبيرٌ، فبقدرِ ما هُم فيه مِن الهمِّ والهمةِ، أدركوا كلَّ حاجةٍ ومهمة».

وقال ناصحاً: «عليكم بجادةِ العزمِ المُسَدَّد، فإنه النهجُّ المُمَجَّد، والآفةُ في الاضطرابِ، والعيبُ في الانقلاب»، وقال: «إنْ رابَ ذا العزمِ خَوَرٌ، واعتراهُ فَتَرٌ، فلينظُرْ إلى ذاتِهِ، وما كمُلَ مِن صِفاته، فإنَّ المرءَ بالصفاتِ الكماليةِ تمامُه، وبالنعوتِ الجماليةِ التئامُه، وما الأمورُ إلا عوارضُ، العزائم والهممُ لهنَّ نواقضُ، فإياكَ أيها الحاضرُ النبيهُ، أن تُرْعيَ سمعكَ لهالكٍ سفيه، فيأخذَك نحوَ مراتعِ الدُّناةِ، فتنأ عنك الكُمَّلُ الأباةُ، واسلُك مراداتِك بقوةٍ اليقين، بنعتِ القوي الأمين».

وختم قائلاً: «وليعْلَم العازمُ، ذو الهمة الحازم، أنه ليس من عزيمته، التقصيرُ في مِشْيَتِه، فذو العزيمةِ آخذٌ أمورَه بالكمالِ، وآتياً به بها دون إخلالٍ، والتقصيرُ ضعفٌ وعجزٌ، وهمْزٌ ولَمْزٌ».

وقال أبو القاسم الشابي في ذلك:

ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

توضيح: أرسل لي د. ناصر القنور ملاحظات على مقالة «إنه لغير أبعد»، منها أن «الرأي قبل شجاعة الشجعان» هو مطلع قصيدة للمتنبي وليس قولاً لسيدنا علي بن أبي طالب، فشكراً له.

back to top