من اللوائح إلى الثقافة
في مقالي السابق، بيَّنت كيف يمكن أن تتحوَّل الحوكمة «الشكلية» إلى عبءٍ بيروقراطي يعوق العمل بدل أن يسهِّله، كما حدث في تجربة NHS-England.
والسؤال المهم هنا: إذا كانت الحوكمة «الشكلية» بهذا السوء، فما السبيل إلى تحقيق أثرٍ حقيقي للحوكمة الصحيحة؟ الجواب يكمن فيما نُطلق عليه ثقافة الحوكمة (Governance culture). فثقافة الحوكمة ليست لوائح إضافية، ولا لجان جديدة، بل هي مجموعة القِيم والعادات التي يتشاركها العاملون داخل المؤسسة، وتوجِّه سلوكهم اليومي (كارنيجي ونابير، 2009). هي الطريقة التي يتعامل بها الناس مع مبادئ الحوكمة، مثل: الشفافية، والمُساءلة، والنزاهة، لا باعتبارها تعليمات جامدة في اللوائح، بل كممارسات عملية تنعكس في القرارات اليومية والسلوك المهني. وعندما تصبح هذه القِيم جزءاً من التفكير الجماعي، يتحوَّل الالتزام بالحوكمة إلى أمرٍ طبيعي يجري بسلاسة داخل المؤسسة، لا مجرَّد استجابة لضغوط داخلية أو متطلبات تنظيمية. فالمؤسسة التي تمتلك ثقافة حوكمة راسخة لا تنتظر النص ليمنع تضارب المصالح، لأن العاملين أنفسهم يُدركون أن إخفاء المعلومات أو اتخاذ القرار لمصلحة شخصية يناقض قِيمهم المشتركة. إنها بيئة يشعر فيها الموظف بأن النزاهة مسؤولية جماعية، وأن الوضوح في القرارات ليس خياراً، بل هو واجب. لكن كيف تُبنى ثقافة الحوكمة عملياً؟
يبدأ البناء من القدوة القيادية، أو ما يُطلق عليه Leading by example، فالموظفون يتعلمون من سلوك قادتهم أكثر مما يتعلمون من اللوائح، حيث إن المدير الذي يوضِّح قراراته بشفافية ويتقبَّل النقد يرسِّخ ثقافة أعمق وأبقى من أي تعليمات مكتوبة. ثم تأتي الأنظمة العملية الداعمة لهذه الثقافة. فعلى سبيل المثال، عندما تقوم مؤسسة ما بتطبيق نظام إبلاغ داخلي آمن (Whistleblowing system) يسمح للموظف بالإبلاغ عن الممارسات الفاسدة من دون خوف من تبعات سلبية محتملة عليه، فإنها لا تفرض ثقافة الحوكمة، بل تُمكِّنها.
إضافة إلى ذلك، تلعب الشفافية الرقمية دوراً محورياً في ترسيخ هذه الثقافة، فعندما تُلزم الجهات التنظيمية الشركات المدرجة بنشر تقارير ربع سنوية للإفصاح المالي، فهي لا تفرض شفافية شكلية فقط، بل تُعطي دفعة عملية نحو ترسيخ سلوك مؤسسي يجعل الإفصاح والوضوح جزءاً من الممارسة اليومية.
خلاصة القول، إن «اللوائح» تنظِّم، لكن «الثقافة» تضمن استدامة التطبيق. ومن دون ثقافة مؤسسية راسخة، ستظل الحوكمة عبارة عن تقارير وأُطر شكلية. وكما عبَّر عن ذلك البروفيسور ميرفن كينغ، أحد أبرز رواد الحوكمة عالمياً: «الحوكمة ليست مسألة قواعد، بل مسألة ثقافة أخلاقية».
*متخصص في الحوكمة، عضو معهد الحوكمة المعتمد ببريطانيا وأيرلندا