هؤلاء صيد ثمين للذاكرة الكويتية
تُصادف في حياتك أشخاصاً التصقت أسماؤهم بالمكان والمؤسسة التي يعملون بها، فإذا نسيت الاسم، فلن تنسى المؤسسة، ويُصبح المكان جزءاً من حياة هؤلاء. فالمساحة الجغرافية تنغرس في جذور الروح، وتنشأ بينهما «صداقة الأمكنة».
معرفتي بهؤلاء ترسَّخت بعدما سمعت منهم حكايات عن العلاقة التي ارتبطوا بها. تُنصت إلى رواياتهم، فتشعر في لحظة أنك أمام تاريخٍ متفاعل من الأشخاص مروا من هنا.
هؤلاء الرواة لتاريخ المكان تحوَّلوا إلى «حكَّائين» سيكونون إضافةً حيَّة، يضفون على المكان روحاً ومشاعر إنسانية ممتعة.
من خلال الرواية الشفهية يتحوَّل إلى حالة من الصداقة والعشق إلى درجة التماهي والانخراط النفسي والعقلي.
هؤلاء «صيد ثمين» لمن يُمارس حكاية التاريخ الشفهي، وعندهم الخبر اليقين والصادق عن معايشتهم شخصيات اختبروهم تحت سقفٍ واحد.
أعتقد أن ذاكرة الحكَّائين ستكون إضافة جديدة لتاريخ المكان، روايتهم غير مُنحازة، وبعيدة عن المبالغات والنفاق الدارج لمن تبوَّأ المراكز القيادية.
«أسامة»، واحد من الرواة الأحياء الذين لم يعرفوا مكاناً آخر في حياتهم العملية غير «الهلال الأحمر» وعنده «الصندوق الأسود»، ما إن تفتحه حتى يُمطرك بشريطٍ من الذكريات والشخصيات عن هذا المكان، يشدك إليه، وكأنه جزء من كيانه الذي لم يبرحه حتى في الأعياد. هو شاهد حي يحفظ الأسماء، ويستدعيها ساعة يشاء.
«زبيدة» هي بنت المكان دخلت في عوالمه، حتى أصبح جزءاً من بيتها الذي لا تفارقه في المنظمة الإقليمية للبيئة البحرية، تقص عليك مشاهد عن أولئك الذين رحلوا أو ما زالوا أحياء، وبعين المُحب.
تتمنَّى أن يقف إلى جانبك مَنْ يحمل الكاميرا والتسجيل، وينقل أحاديث وتواريخ لن تجدها في مكانٍ آخر.
«أبويوسف»، ذلك الرجل الذي أفنى حياته وعُمره في المكتبة الوطنية، تجلس إلى جانبه ولا تُحب أن تغادره، موسوعة متنقلة لتاريخٍ لم ينقطع منذ خمسين سنة. هذا الكنز من المعلومات والذاكرة الحديدية تتمنَّى مَنْ يأخذ بيده ويفرغ ما في عقله إلى شريطٍ وثائقي لن يتكرَّر.
العم عيسى الغانم، هذا الرجل الفاضل، بقامته وتاريخه، أشبه بخزان معلومات، راوٍ من الدرجة الأولى، ذاكرة تسبح في تاريخ البحر والنواخذة والسُّفن، تبدأ من قِصة ميناء الكويت الأولى مع البناء وقبله، وهذا مكسب لأي مؤرخٍ أو باحثٍ أو مختصٍ بتوثيق الحياة الاجتماعية في الكويت.
تلك النماذج ليست الوحيدة، هناك مَنْ يُشبهها بالتأكيد، مَنْ هو أكفأ وأقدر منها، لكن أليس هؤلاء يملؤون الفراغات، ويرسمون بذاكرتهم مشاهد وصوراً وحكايات نفتقر إليها، بدلاً من منصات وفيديوهات التفاهة التي تُغرق حياتنا وأيامنا من دون فائدة تُرجى؟!