نُرضعهم حناناً... ونحرمهم تربية!

نشر في 18-07-2025
آخر تحديث 17-07-2025 | 17:19
 د. أحمد حسين الفيلكاوي

نحتفل بضحكتهم، نغمرهم بالهدايا، نُلبي كل طلب، ثم نُفاجأ بأنهم لا يحترمون، لا يصبرون، ولا يعرفون حدوداً. هذا ليس مقالاً ضد الحنان... بل ضد الحنان غير المؤطّر. الذي يتحول من دفء... إلى ضعف في الشخصية. ومن حب... إلى غياب في القيادة.

جيل اليوم يحصل على كل شيء بسهولة: ألعاب، أجهزة، وجبات، حريّة، بل حتى أعذار جاهزة للخطأ، لكن حين يسقط... لا يعرف كيف ينهض. لأنه تعلّم الراحة، ولم يتعلّم المسؤولية.

نُرضعه حناناً منذ الولادة... لكن لا نُرضعه قِيَماً.

تسأل المعلمين اليوم: ما مشكلتكم مع الطلبة؟ فيجيبون: لم يتعلموا أن يقولوا «شكراً»، ولا يعرفون الانضباط، ولا يحتملون كلمة «لا». المشكلة ليست في الطفل، بل في «المُربي المرهق» الذي ظن أن التربية هي أن نُبقي أبناءنا سعداء طوال الوقت. ونسي أن التربية = إعداد للحياة... لا للراحة.

بلاد كثيرة تُدرّس مفهوم «المناعة النفسية»، أن الطفل يحتاج أن يسمع كلمة «لا»، أن يُصدم مرة، أن يُخطئ ويُحاسب، لأن الحياة ستفعل ذلك لاحقاً... وبقسوة أكبر.

نحن نمنحهم كل شيء، ثم نلومهم إذا طالبوا بالمزيد، نُغرقهم بالموافقة... ثم نتعجب من عدم تقديرهم.

التربية ليست «رضاعة عاطفية» فقط، بل فطام فكري، وحزم أخلاقي، ومواقف تُشكّل الوعي. فإذا أردت أن تُحب ابنك بحق... فعلّمه أن الحب ليس دائماً قول «نعم».

نُرضعهم حناناً... لكن إن لم نُرضعهم مسؤولية فسيكبرون... ويُجفّف الوطن من الداخل.

أذكر أنني التقيت ولي أمر يشتكي: «ابني لا يحترمني، ولا يسمع كلامي، وكل ما أطلبه... يرفضه!»، وحين سألته: «هل قلت له يوماً: لا؟»، رد متفاجئاً: «لا، مستحيل... ما أقدر أزعله!».

وهنا نكتشف المأساة: جيل يعتقد أن الحب يعني الاستجابة، وأن الأبوة = توفير، والأمومة = حضن دائم.

لكن بحسب دراسة منشورة في مجلة علم النفس الاجتماعي (2021)، تبين أن الأطفال الذين نشأوا في بيئة مفرطة الحماية والحنان يعانون ضعفا في مهارات التأقلم، وارتفاعا في معدلات القلق، ويُظهرون سلوكيات نرجسية أو تمردية عند أول صدمة حياتية.

نحن لا نربيهم للماضي... بل للمستقبل. والمستقبل لا يرحم من لم يتعلم أن يتألم قليلاً، ويُؤدّب كثيراً، ويُفهم ببطء.

نحن نحتاج إلى أن نُعيد تعريف الحب داخل الأسرة، أن نُفهم أبناءنا أن التربية لا تُقاس بعدد الهدايا، بل بعمق القيم، وبصرامة البناء الأخلاقي.

فليس كل ما يُرضي الطفل... يُربّيه. وليس كل ما يُبكيه... يؤذيه. بل أحياناً... تبني طفلاً سوياً، حين تقول له: «لا، لأنني أحبك».

back to top