هل فقد اليمنيون دولتهم؟! قراءة فاحصة في المشهد اليمني المعاصر (2– 2)
مواصلةً للمقال السابق، الذي يناقش مسألة فقد اليمنيين دولتهم، فقد واكب ذلك الانهيار أيضاً تعدد للجيوش والقوى المسلحة الخارجة عن نطاق الدولة، بعضها يرفع شعارات وطنية، والبعض الآخر يعمل وفق أجنداتٍ خارجية؛ ولم يعد الجيش جيشاً وطنياً جامعاً، بل تفكك بين ولاءاتٍ حزبيةٍ ومناطقية؛ فضاع هو الآخر، كما أن الركيزة الثالثة للدولة تتمثل في غياب النظام القضائي المُوحَّد، فتعدَّدت مرجعياته، وتباينت إجراءاته القانونية من منطقةٍ إلى أخرى، كما أن الاقتصاد والمجتمع اليمني لم يكونا عن ذلك ببعيد؛ فالاقتصاد أصبح مشلولاً، وتوقَّف (80%) من إنتاج النفط، وانهار البنك المركزي، وعجز عن دفع الرواتب للموظفين، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على العملة ذات القيمتين المختلفتين مقابل العملات الأجنبية؛ إحداهما ثابتة ولو بصورةٍ وهمية، والأخرى منهارة بصورةٍ يومية، ليواكب ذلك تضخم مرتفع في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، والمرتفعة جداً في صنعاء برغم ثبات العملة، والعكس تماماً في عدن، كما أن الخدمات الأساسية، كالكهرباء والمياه والتعليم، انهارت هي الأخرى.
أما أخطر تلك الانهيارات فيتمثَّل في ضياع الهوية الوطنية، وتفكُّك النسيج الاجتماعي لمصلحة هوياتٍ جهويةٍ ومذهبية ليتحوَّل اليمن من دولةٍ واحدة إلى كياناتٍ متنافسة؛ فالحوثيون في الشمال يسيطرون على العاصمة صنعاء ومعظم المناطق المكتظة بالسكان، ويعتمدون على خطابٍ ديني وسياسي يرفض الشرعية الدولية، والمجلس الانتقالي الجنوبي يسعى إلى انفصال الجنوب، مستغلاً تاريخاً من «التهميش» منذ حرب 1994م، والحكومة الشرعية الضعيفة والمُقسَّمة، والتي تعتمد على التحالف العربي، لكنها فشلت في استعادة السيطرة الفعلية على الدولة؛ وهذا التقسيم يعكس أزمةً عميقة يعيشها هذا البلد ويتجرعها أبناؤه، ليعيشوا حالة من «التيه السياسي»؛ فلم يعودوا يشعرون بوجود دولةٍ تحميهم أو تُوفر لهم أبسط الخدمات؛ فكلها غائبة أو مشروطة بالولاء لجهةٍ ما، وبدلاً من «العقد الاجتماعي» الذي تنبثق منه الدول الحديثة، أُجبر اليمني على الدخول في «عقود ولاء» مع جماعاتٍ مسلحة أو سلطاتٍ محلية؛ أو بالأصح لقد حلَّ منطق الغلبة محل منطق القانون؛ وهذا الأمر تقع مسؤوليته على النُّخب السياسية التي تبنَّت مشروع الربيع العربي، ومن ثم دعمت الحوثيين ظناً منها أنهم «سيخلصونها من الفساد»، ولكن النتيجة كانت خسارة الوطن كله، وعند ذلك سعت نحو البحث عن داعمٍ خارجي يأوي بها إلى ركنٍ شديد؛ فأضاعوا البلد برمته، وقضوا على دولته، وشتتوا مجتمعه؛ ولكن يتبقى بصيص أملٍ، فرغم كل هذا السواد لا يمكن القول إن الدولة اليمنية انتهت بالكامل؛ فالتاريخ علمنا أن الشعوب لا تموت، وأن الدول تنهض أحياناً من أكثر لحظاتها انحطاطاً، وهناك جيل جديد بدأ يتشكَّل، يحمل وعياً سياسياً مختلفاً، ويحلم بوطنٍ لا تمزقه الهويات الطائفية ولا المطامع الخارجية، كما أن المبادرات الدولية لا تزال قائمة، والفرص السياسية، وإن تضاءلت، لم تنعدم، ويبقى التحدي الأكبر هو وجود قيادةٍ وطنيةٍ جامعة تمتلك مشروعاً سياسياً واضحاً، وتتمتع بالشرعية الشعبية، والقدرة على التفاوض داخلياً وخارجياً، لنصل إلى السؤال المهم أيضاً: هل سيستلهم اليمنيون دروس الماضي لكتابة وصناعة مستقبلٍ مختلف؟!! الله وحده أعلم.