معارك هيكل بين الصحافة والسياسة (8 من 10)

نشر في 15-11-2015 | 00:01
آخر تحديث 15-11-2015 | 00:01
نذر الخلاف تتحول إلى بذور شك

السادات يطلق عليه موسى صبري لإعادته إلى «حظيرة الطاعة»
كظم السادات غيظه طويلاً، وصبر يتحين الفرصة للنّيل من هيكل، وقرر أن يستخدم المدفعية الثقيلة التي يمتلكها قلم صديقه المقرب موسى صبري، وهو الذي يعلم ما كان يعانيه من أحقاد على هيكل، فأطلق يده وقلمه.

ولم يكن أحد يعرف المخفي من كل هذه الخلفيات، وهكذا وبدون مقدمات فوجئت الأوساط الصحافية والسياسية قبل نهاية سنة 1972 بحملة ضد محمد حسنين هيكل يشنها موسى صبري الصحافي وثيق الصلة بأنور السادات، خرجت من التلميح إلى التصريح، ومن الغمز إلى العبارات المدوية.

كان موسى صبري حصل على الموافقة على ما ينوي عليه ولكن إحسان عبدالقدوس رئيس مجلس إدارة الجريدة لم يكن يعرف، وعندما علم من مصادره داخل الجريدة بما كتبه موسى وينوي نشره اتصل به –كالعادة– يسأله عن مقاله القنبلة، فقال له إنه سيهاجم موقف هيكل من الحرب، في مقالين ينشران على التوالي، وحاول عبدالقدوس أن يثني موسى صبري عن نشر المقالين، ولمح له أنه كرئيس مجلس الإدارة يمكنه أن يمنع النشر، فهدد صبري بالاستقالة، وطلب إحسان أن يحتكما إلى الرئيس السادات فرفض صبري، وحين قال له إحسان إنه قرر منع المقال من النشر كتب استقالته ورماها على المكتب أمامه وخرج.

تصلب موسى صبري في وجه إحسان عبدالقدوس مرتكناً إلى موقف السادات، هو نفسه يعترف بذلك فيقول:

كنت رفضت الاحتكام إلى الرئيس السادات، لأنني سبق أن اتصلت بالرئيس وقلت له مع احترامي لعلاقتك مع هيكل فإن له مقالاً لا يمكن إلا أن أرد عليه، وأجاب السادات: أنا لا أتدخل فيما تكتب... أنت حر... وكانت تلك هي إشارة المرور لأول هجوم علني وبضراوة، على هيكل في عهد السادات بعد الإطاحة بمراكز القوى، حتى ان إحسان عندما اتصل بالرئيس السادات وعرض عليه الموقف، لم يؤيد السادات وجهة نظره في عدم النشر.

وفهم الكاتب المخضرم أن موسى معه إذن بالهجوم، فذهب إليه في مكتبه، ووافق على النشر وطلب عدم ذكر اسم هيكل بدعوى أن القارئ سيفهم، وقبل موسى صبري، فكل كلمة في المقال تفصح عن المقصود، بل إنه كان يستخدم مقاطع مما نشره هيكل لكي يرد عليها.

***

اختار موسى صبري أن يبدأ الهجوم يوم الجمعة، نفس اليوم الذي ينشر هيكل فيه مقالته الشهيرة "بصراحة"، وقدم قراءته لما يكتبه هيكل، وساق في وجهه الاتهامات جزافاً، وبدون أن يقيم عليها أي دليل، مجرد إلقاء الاتهام تلو الاتهام بدون تمحيص ومن غير توقف كأنه يريد أن يذهب به إلى قفص الإعدام، ثم راح موسى صبري يؤكد عدة أمور من خلال الكلمات:

- أن الرئيس دعا رؤساء تحرير الصحف وكبار الكتاب إلى اجتماعات ضيقة ليشرح فيها تطورات الأوضاع حتى يكون الجميع في الصورة، وكانت الترجمة الحرفية لهذا الكلام أن الرئيس السادات لم يعد ينتهج سياسة "إيثار هيكل" بأن يكون وحده في صورة ما يحدث.

- أنه تقرر منذ أمد طويل أن تذاع كل مقالات الكتاب في إذاعة القاهرة يوم نشرها (أي لم يعد مقال هيكل وحده هو الذي يذاع في الإذاعة).

- أن الرأي اجتهاد لصاحبه، وليس صوتاً رسمياً يتحدث باسم أحد. (أي أنه سقطت الدولة التي كانت تعتبر هيكل هو المعبر الرسمي عنها).

ولأن موسى صبري منع من ذكر اسم هيكل بصراحة، فقد راح يشير إليه بكل وضوح ويؤكد بأساليب مختلفة أنه هو المقصود، فمرة يقول: "نقرأ مرة أن ويلي براندت يتساءل في عجب: ماذا تريدون بوضوح؟، وكأننا بعد خمس سنوات من الهزيمة، وبعد إعداد حقيقي للقتال يكلفنا بلايين الجنيهات لانزال لا نعرف ماذا نريد؟".

والحق أن هيكل كان يناقش في تلك الأيام التقاعس عن الإعداد الجيد لخوض معركة للتحرير، وهي معركة تشمل عند هيكل كل الوسائل والأدوات، وتشمل الضغط من أجل حل سياسي، كما لا تستبعد القتال، بل إنه لا يمكن التملص منه إذا أردنا تحرير الأرض.

وفيما كان هيكل يناقش شروط النصر وضروراته، راح موسى صبري يسأله: لماذا يردد أن الانتصار مستحيل، لنفرض حسن النوايا، ولنقل إنها شجاعة تعلن عن اقتناعها بجسارة وليكن ما يكون، وإنني أقول هنا إنها شجاعة مفتعلة مستغلة لحرية الكلمة، لها ما وراءها، ثم تزداد نبرة الهجوم ويصبح "لاذعاً" أكثر فيقول موسى صبري:

- ليس من المسؤولية في شيء على الإطلاق أن نهون من قدرة العدو..وليس من المسؤولية في شيء أن تتحول الصحف إلى أبواق دعاية صاخبة، صاحبة الصوت العالي التي أقنعت الجماهير أننا سنصل إلى تل أبيب في ساعات ثم كانت الفاجعة، كان هذا هو المفروض على الصحافة المصرية يوم كانت الصحافة المصرية قلما واحدا، ويوم كان هذا القلم الواحد هو الصحافة المصرية.

***

كان مقالا موسى صبري هما الأولين من هذا العيار الثقيل في مهاجمة هيكل، والذي يطلع على الصفحة الأولى من جريدة الأخبار المنشور فيها المقال على ثلاثة أعمدة أعلى يسار الصفحة سيجد أجواء المعارك مسيطرة على كل العناوين.

كان المانشيت الرئيسي "معركة رهيبة في هانوي"، وكانت العناوين تحته أن الطائرات الأميركية ألقت فوق فيتنام خلال أربعة أيام أكثر من القوة التدميرية للقنبلة الذرية، وكان الخبر الرئيسي سقوط قنبلة أميركية فوق السفارة المصرية في هانوي، ما أدى إلى تدميرها وهدم سقفها، واحتجاج مصري على أميركا بعد تدمير سفارتنا في هانوي، ولن يكون من قبيل المبالغة إذا قلنا إن معركة أخرى رهيبة كانت قد نشبت في نفس اليوم، معركة هدفها تصفية نفوذ هيكل، وكانت قوة مقال موسى صبري التدميرية تريد أن تفجر بقية العلاقة بين الكاتب الذي أدمن الوجود عند القمة وبين الرئيس الذي مازال يرى ضرورة الحفاظ عليه بجانبه.

في المقال الثاني أعاد موسى صبري الكلام حول نفس التهم، وأضاف تهماً جديدة خلاصتها أن هيكل يدعي ما لا حق له فيه، ومن ذلك أنه يصور نفسه سياسياً على هيئة صحافي، ويفوت خبراً على "جريدة يمينية في بيروت هي من أبواق الدعاية له، يقول: إنه طائر إلى ميونيخ لعقد اجتماع سري مع كيسنجر مستشار البيت الأبيض، وتنقل وكالات الأنباء الخبر الكبير ويصدر كيسنجر تكذيباً رسمياً له، ولكن الضجة تثور ويعود منتفخ الأوداج يسجل أنباء الضجيج والعجيج"، وبشكل ملتو راح موسى صبري يلعب على وتر أن هيكل يبحث عن دورٍ في وقت لم يعد له فيه دور، وأن كل ما يسعى إليه في النهاية هو أن تجري مصر في فلك أميركا...!!

كانت للسادات أهداف من الإيحاء بالهجوم والموافقة عليه، وكانت لموسى صبري أهدافه أيضاً.

ولأن السادات كان هو الذي أوحى بالهجوم فلم يكن أحدٌ على الاستعداد بالمجازفة بالاحتجاج على عنف الهجوم الذي وجد فيه موسى صبري متنفسه بعد أيام كانت طويلة، تلوى فيها من الغيظ المكتوم.

كانت أهداف موسى صبري بسيطة، غير مركبة، وكلها ذاتية، كان يريد أن ينتقم لنفسه من كل لحظة تجاهلٍ عاشها من قبل في ظل وجود هيكل في بؤرة الاهتمام، وكان يريد أن يقدم نفسه بديلاً جاهزاً وقادراً على التصدي للتعبير ليس عن آراء السادات فحسب، بل عن ثاراته...!

ولكن السادات كانت له أهداف أخرى، أكثر تعقيداً:

كان وسط أجواء خلاف بدت نذره في أحداث الفتنة الطائفية قبل عام، وتصاعدت وتيرته مع احتضان "الأهرام" لفكرة الحوار مع الطلاب الغاضبين الذين خرجوا في تظاهرات تطالب بتحرير الأرض، ثم خرجت إلى العلن مع قرار السادات -قبل شهور- بطرد الخبراء السوفيات من مصر بالطريقة المسرحية التي أخرج بها قراره ذاك، وتحولت نذر الخلاف إلى بذور شك في درجة الولاء التي يطالب بها السادات هيكل حتى لو في داخله بصفته الرئيس وبنظرته إليه ككاتب دوره أن يعمل في خدمة الرئيس.

وكان ضمن بذور الشك الطالعة في العلاقة بين السادات وهيكل في نفس الوقت الموقف الذي اتخذه هيكل من الدعوة الأميركية له لمقابلة -غير علنية– مع هنري كيسنجر ليسمع منه عن القضية في منطقة الشرق الأوسط، على الأقل أن يسمع منه وجهة النظر الأخرى، من الجانب العربي، وكانت الدعوة الأميركية قد انتهت إلى رفض هيكل لها قبل عام في نوفمبر سنة 1971.

ثم كانت ضمن أسباب السادات للإطاحة بالفريق أول محمد أحمد صادق أنه كان –في نظره– يمثل محوراً مع هيكل، يجعل منه مركز قوة في مواجهته لا يطيق أن يصبر عليه إلى أن تنقلب الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، وكان قرار عزل صادق في أكتوبر 1972 قبل ثلاثة أشهر، وفي هذا يقول السادات:

- " عندما أخرجت الفريق صادق، لم يجد هيكل أحداً ليركبه ويؤثر عليه من المعاونين لي، وهو كان قد حاول أن يصنع مركز قوة مع صادق في الجيش، هو في الأهرام مركز قوة، ثم أراد أن يعزز نفسه بالقوات المسلحة، وصادق وزير حربية وقائد عام، واكتشفت ذلك من الخطب التي كان يلقيها صادق في وحدات الجيش"، ويضيف السادات: "ووجهت لوماً إلى هيكل عما يفعله مع صادق، ثم انتهيت إلى قرار بإخراج صادق، لأنه لا ينوي المعركة على الإطلاق".

كان السادات -لاشك- مطلعاً على ما لا يعرفه موسى صبري، وكان يريد -أول ما يهدف إليه- أن يلصق بهيكل تهمة "الانهزامية"، وحتى يفقده أي مصداقية ويثير زوابع الشك في حديثه الذي تكرر ويُشتَّم منه، إن صراحة أو ضمناً، عدم جدية النظام في الإعداد والاستعداد لتحرير الأرض المحتلة.

ثم كان السادات يحاول أن يعلن إسقاط سياسة "إيثار هيكل" على الملأ، إذ سيعرف الجميع أن موسى صبري ما كان له أن يتجرأ على المساس بهيكل بهذا الشكل بدون إذن مسبق منه شخصياً.

أراد السادات أن يقول إن هيكل مثل الآخرين لم يعد تحت الحماية الخاصة التي تمنع الهجوم عليه أو النيل منه، وهو هدف في جانب منه عقاب لهيكل على إصراره على دور المستقل في مواجهة السادات، وفي جانبه الآخر دعوة إلى الآخرين أن تقدموا، وليظهر كل منكم مواهبه، لعله يكون في موقع هيكل الذي بدأ يفقده كما رأيتم على رؤوس الأشهاد.

تصور السادات أنه يضغط على هيكل لعله يرجع إلى "حظيرة الطاعة" التي يتصور أنه كان فيها زمن عبدالناصر، فلماذا يمانع معه، يناقش ويختلف وأحياناً يعلن اختلافه بلا مراعاة، لأنه يختلف مع الرئيس بكل ما له من سلطات.

أراد السادات أن يظهر "العين الحمراء" لهيكل لعله يتعظ ويلتزم. والالتزام عند السادات لا يعني غير "التبعية"، وفرض "التبعية" عند هيكل، خصوصا من السادات، لا يعني غير الانسحاب كلياً من ساحة التعامل مع السلطة رغم إدمانه على القرب منها، وهو العامل الذي ظل السادات يراهن على أنه سيغلب هيكل لحظة "الاختيار" المريرة!

لم يتصور السادات، بحكم تصوره الشخصي عن السلطة والمسؤولية، وهو الذي أدرك -ربما أكثر من غيره- معنى "الرئاسة الأولى" في بلد مثل مصر، فلم يقامر -ولا مرة واحدة- بأية معارضة ولو شكلية، ولذلك لم يكن يدرك كيف يتأتى للآخرين أن يتصوروا أنه لن يطبق معهم فكرته تلك عن السلطة وصاحبها، وكان قد فعلها من قبل وأطاح بكل من أرادوا مشاركته في السلطة، أو حاولوا منع انفراده بكل السلطات.

وكان السادات –بسماحه لهجوم موسى صبري على هيكل ومن خلال ذلك بالهجوم على زمن عبدالناصر- يريد أن يعتلي الأسوار التي كان يضعها هيكل على لسانه، والتي تحد من محاولاته الهروب إلى مواقع أخرى غير التي اختارها جمال عبدالناصر كسياسة ثابتة لمصر.

كان قد سبق الهجوم الصريح على هيكل حلقات من الهجوم المتواري على بعض السياسات الناصرية، ولاشك أن السادات، الذي أكد أكثر من مرة في خطب أنه مسؤول عن كل ما حدث في ثورة يوليو، وردد –مرات– مشاركته وتضامنه مع كل ما اتخذه جمال عبدالناصر من قرارات أو إجراءات، كان يريد أن يقول إن له كلاماً آخر غير ما يقوله في الخطابات الرسمية التي يكتبها هيكل.

اتهامات موسى صبري

يتهم موسى صبري هيكل بتهم لو صحت لأوجبت محاكمته عسكرياً:

- تمزيق نفوس الجماهير.

- إشاعة البلبلة والتشتيت والتشكيك.

- تقبل كل دعوات الأعداء. وكل هذا في وقت الحرب، ويصرخ موسى صبري:

- إنه العار! بل هو الكفر بمعجزة الخالق في خلقه!

ولا يترك موسى صبري أية فرصة أمام هيكل للهروب من اتهاماته التي كالها له فيقول:

"إن من يقولون قد تحفظوا لكي يؤكدوا حسن النوايا وبراءة القصد بحجة أن المناخ الصالح الوحيد الذي يجب أن نمارس فيه كفاحنا هو مناخ الحرية بغير صد أو تخويف أو حتى تشكيك.

وهو تحفظ قاله هيكل.

ولكن موسى صبري الذي لا يريد للغضب أن يدفعه إلى غلواء الاتهام بسوء النوايا راح يهاجم هيكل رغم ذلك ويهاجم عصره الذي ولى... ويعيره بالحرية المكفولة له:

- نحن نقبل هذا التحفظ، نقبله الآن في مناخ الحرية الذي حققته ثورة 15 مايو التي وصفوا يوماً القائلين بأنها ثورة بأنهم أصحاب جهالة وغباء... نقبله الآن في المناخ الذي لا يفرض صمتاً، بل لعله فرض علينا هذا الذي نقرأه. نقبله الآن في أجواء الديمقراطية التي لا تحكم بتخويف ولا تقضي بأوهام شكوك وتحترم إنسانية الإنسان، وكم كنا نتمنى لو كان هذا التحفظ هو الستار أيام كان نفوذ قلم واحد يفرض الصمت على الآخرين كانت أياما طويلة، طويلة!!

الغريب أن موسى صبري الذي لم يزد دوره في مايو سنة 1971 على دور أي صحافي قرر أن ينحاز علناً إلى جانب أنور السادات، وهو رئيس للجمهورية، وفي مواجهة خصوم كانوا قد فقدوا قدراتهم ونفوذهم السابق، والأغرب أن صاحب هذا الدور المتواضع في مايو سنة 1971 هو الذي يزايد على واحد لولا وقوفه إلى جانب السادات هو وآخرون معه، لكان السادات وموسى صبري قد ذهبوا في مهب ريح عاتية كانت تنذر بالهبوب.

 والأكثر غرابة أن يزايد بشعار الديمقراطية، على من وضع الشعار على لسان السادات يوم 15 مايو سنة 1971، وهو يتحدث إلى الأمة حديث من القلب إلى القلب، وكان هيكل هو الذي أشار عليه أن يتحدث عن الديمقراطية التي يشتاق إليها الناس، وأن يركز عليها في مواجهة خصوم كانوا يريدون أن يحكموا البلد بالحديد والنار...!!

back to top