الأبنودي الحكاء الماهر... أسمراني اللون يتذكر أيامه الحلوة

نشر في 26-04-2015 | 00:10
آخر تحديث 26-04-2015 | 00:10
أحداث وشخصيات وأغان من الزمن الجميل

بجانب مملكة الشعر العامي الذي توج ملكا عليها، امتلك الشاعر الراحل
عبدالرحمن الأبنودي ملكة الحكي، فكان الحكاء الماهر، الذي نسج بين الذات والوطن والناس، وذلك في سرده لذكرياته عن أيام وأحداث عاشها طوال مسيرته الإبداعية سردها لـ«الجريدة» التي نشرتها من قبل على حلقات منذ أكثر من سبع سنوات، وفيها حكى كأنه لم يحك من قبل عن أصعب أيام وأحداث عاشها.
أول الأيام كانت في قريته أبنود، التي كان يتردد اسمها باستمرار على شفتيه
وفي كلماته.
يقول الأبنودي: أذكر أن صديقي الأديب الطيب صالح قال لي إنني سأدخل النار بسبب أبنود، وأقسم قائلا: يا رجل «مصمصت عظمي»، الواحد يقول لك «صباح الخير» تقول له «أبنود»، يكلمك في السياسة تقول له «أبنود»، في الأدب «أبنود»، حرام عليك!
ويفسر الأبنودي طرفاً من هذه العلاقة، قائلا: هي أبنود وأنا الأبنودي، أحمل اسمها، ما يجعلني محملاً بأمانة ومسؤولية أن أكون على مستوى التجربة الشريفة لهذه القرية التي أدين لها بأني أصبحت عبدالرحمن الأبنودي.
ويتذكر الأبنودي قريته خاصة في شهر بابة الذي يقول عنه

يمثل المعادل الزمني لأبنود وكتب عنه

نفسي أكتب كتابة

تجيب "طوبة" في "بابة"

تمسح ريش البلابل

وتنعنش الغلابة

تحاور البحورة

وتنطق السحابة

إنه حلم الخصب طوال العام فاسما "بابة" و"أبنود" مستمدان من المصدر نفسه، من إله الزرع الذي أصبح مرة شهرا "بابة"، كما أصبح قرية "أبنود" في مرة أخرى. والفلاحون يقولون "رمان بابة" في ربط هو عروة لا تقبل الانفصام بين الشهر ومحصوله "الرمان" الذي يستوي على سوقه في بابة بحبوبه التي تحمل لون الياقوت وحلاوة غناء الأرض، هذا ما ينضجه "بابة".

ورغم أنه تحدث كثيراً عن والدته فاطمة قنديل، إلا أنه تحدث عن الوالد

لـ"الجريدة" قائلا: "أما الوالد، فأذكره يحملني وأنا "مربَّط" بالشاش عندما سمع أنني أصبت بالطاعون، ولم يجدوا تسمية أخرى للورم الذي أصبت به في رقبتي وكان مفزعا، أذكره يحملني بين يديه وهو قادم بي لا أدري من أين وحين أرقدني رأيت -للمرة الأولى- دموعا تتقاطر من عينيه والشيخ الأبنودي كان لا يبكي ولا يضحك أمام أبنائه، وحين كان يضحك مع أصدقائه ويرى أحد أبنائه مقبلا كان يمد كفيه على وجهه لـ"يكشط" الضحكة، وكذلك كانت جلساتنا على الغداء، الوجبة الوحيدة التي نلتقي إليها، أشبه بحصة تفتيش مدرسي، ذلك أن حياته القاسية لم تترك له وقتاً ولا رفاهية للضحك والتساهل ومحاولة خلق صداقة بينه وبين أبنائه، وهذه سمة عامة للرجال في الصعيد، ألا يتصرفوا على نحو يشجع أبناءهم على البحث عن شيء من التكافؤ في العلاقة معهم".

مرجع أدبي

يحكي الأبنودي عن مرجعه الأدبي الأول الذي صنعه بنفسه، ولا عجب، ألم يتعلم مذ كان في أبنود أن يستغل القليل الذي تتيحه له بيئته ليصوغ منه حياة كاملة؟ ألم يكن يصنع إدام "الشلولو" بنفسه؟ ألم يجمع محصوله الخاص من بقايا الحصادين بنفسه؟ ألم يصنع أدوات صيده للسمك والعصافير ثم يطهو ما اصطاده بنفسه؟ ألم يصنع أدوات لعب الطفولة بنفسه؟ حسناً، فعل هذا كله، فلِمَ لا يصنع مرجعه الأدبي الأول بنفسه؟.

يقول الأبنودي: "كنت أحتفظ بكتيبات الأفلام مذ كنت في الثانية عشرة، أخبئها ككنز ثمين وسر خاص وأطالعها خلسة، وعندما زاد عددها قمت ذات صباح شتوي مشمس بخياطتها بعضها إلى البعض بواسطة "مسلة" قوية وخيط متين لتصبح الكراسات المتفرقة كتاباً واحداً كبيراً كان مرجعاً لي أعود إليه كل يوم جمعة إذ أخرجه من مخبأه وأنتحي به ركنا لا يراني فيه أحد لأقرأه وأتعرف أكثر إلى المطربين والملحنين والشعراء: محمود الشريف، عزت الجاهلي، فتحي قورة، مأمون الشناوي، أحمد صدقي، رامي صبرة، محمد عبدالوهاب، محمد فوزي، محمد عبدالمطلب، محمد قنديل، بفضل هذا المرجع كنت أعرف ما لا يعرفه رفاق الصبا وأتابع الراديو -حين أتيح لي ذلك في ما بعد- على نحو لا يمكنهم أن يجاروني فيه، كنت أسمع مثلاً أغنية بدوية لمحمد الكحلاوي فأعرف من كتبها، كما أعرف من كتب ولحن هذه الأغنية أو تلك لنجاة علي وفتحية أحمد، إلخ. ناهيك عن أنني كنت منذ البداية أشاهد الأفلام بعين الناقد، وهي عين كفيلة بإفساد متعة المشاهدة، وفي حوارات ما بعد الخروج من السينما مع رفاق الصبا كنت أستنكر أن يكون هناك ريف كالذي شاهدناه أو موظف يمتلك سيارة كالتي يمتلكها بطل الفيلم الموظف، أو طبيبة تقيم في فيلا كالتي تقيم فيها البطلة، كان "الواقع" دائماً حياً في ذهني، ولم أكن أستطيع الانفصال عنه إلا وأنا أسمع الأغاني التي كنت أنشغل بكلماتها أكثر من أي شيء آخر".

جمال الصداقة

وعن أولى صداقاته يقول الأبنودي: "الصداقة هي زادي الذي يبقيني على قيد الحياة ويدفع بي إلى الأمام، أول صديق عرفته مازال صديقاً لي حتى الآن. صحيح أنه يعيش في صعيد مصر ولا أراه إلا حين أذهب إلى أبنود، لكننا مازلنا نتواصل عبر الهاتف، ومازالت الصداقة بيننا على حالها"، ويتذكر: "هذا الصديق هو جمال نصاري، التقيته للمرة الأولى في أولى سنوات الدراسة في مدرسة سيدي عبدالرحيم الابتدائية التي ذهبت إليها بعد مدرسة المحطة مباشرة، وكان التحق بالمدرسة قبلي بعام واحد، لكنه رسب فبقي في الصف الأول، منذ لقائنا الأول ربطتنا صداقة لم تغيرها الأيام، صداقة نشأت رغم تعارض انتمائنا القبلي، وساعدتنا على اقتحام الحياة بجسارة ضد معتقدات أهالينا، وفي 1954 عندما باغت السيل مدينة قنا هدم بيت عائلة جمال نصاري مع ما هدم من بيوت، هدم ذلك البيت الجميل الذي كنت أذهب إليه وأحبه".

يتذكر الأبنودي أيضاً أن جمال نصاري كان برفقته عندما التقى الزعيم جمال عبدالناصر، وأنه مَنْ نبهه إلى وجوده فوق السيارة العسكرية الغارقة في مياه السيول. يقول إن نصاري فنان عشق الرسم وعمل مدرساً له في معهد قنا الديني!

ومن الأصدقاء في تلك المرحلة (مرحلة الدراسة الابتدائية ثم الثانوية) يتذكر الأبنودي عبدالرحيم صالح زميله في مدرسة سيدي عبدالرحيم الابتدائية الذي يصفه بأنه كان طفلا في منتهى التهذيب، جميل الصورة، ابن ناس إلى حد مبالغ فيه، مجدّ لا يعرف إلا المذاكرة، وطبيعي ان وصلت به تلك الصفات إلى أن يصبح نائب رئيس محكمة النقض ومدير نيابة النقض.

وعن أصدقائه الذين عرفهم في مدرسة قنا الثانوية يقول الأبنودي: "كان فصلا يضم عدداً من الموهوبين الذين جاؤوا من مدارس متفرقة، كأنه جمعية للأدباء. من مدرسة سيدي عمر جاء الشاعر أمل دنقل، ومن الأقصر جاء الكاتب محمد صفاء عامر، ومن المدرسة الإنجيلية -التي كان أبي الشيخ الأبنودي يعمل مدرسا للغة العربية فيها- جاء مصطفى الضمراني، وجاء المخرج

أبوالوفا القاضي من فرشوط، ومحمد سلامة آدم من نجع البارود".

ويمضي يقول الأبنودي في سرد ذكرياته: "مع هؤلاء "الضامرين"، كان هناك أصدقاء يتميزون بضخامة البنية، منهم: جورج، صافي، عبدالرحيم وشاحي، بدوي عبدالسميع، ومن هؤلاء الداهية جمال حلوي وحمام متولي سعيد، فضلاً عن جمال نصاري، تكونت "عصابتنا" في مدرسة قنا الثانوية، أقيمت مباراة كرة قدم تاريخية بين مدرستهم والمعهد الديني في قنا، وهي تاريخية لا لسبب إلا لكثرة الضحايا من الجرحى والمصابين الذين سقطوا يومذاك، هذه المباراة لا تنساها قنا حتى الآن، يومذاك استعانت العصابة -عصابتنا- بطبلة ورقّ واحتلت ركنا من أركان الملعب، وما إن بدأ اللعب حتى بدأنا ترداد الهتافات التي كانت سبباً في "المذبحة" بعد ذلك! كان المسؤولون عن "ضبط الإيقاع" جمال نصاري وجمال حلوي وحمام متولي سعيد، أما إطلاق الهتافات فكان مسؤوليتي -بالطبع- وأخذت أصيح وراحوا يردون: شد العمة شد... تحت العمة قرد، أو: "شيل العمة يا أستاذ... تحت العمة صفيحة جاز"، وغيرها من هتافات كانت من الأقوال السائرة، وكنت أحفظها من باب الاهتمام الباكر بجمع التراث الشعبي منذ الصغر. هكذا قدت الحملة ضد إخواننا في المعهد الديني، رغم وجود اثنين في بيتنا ممن مروا في هذا المعهد، هما أبي وأخي الأكبر الشيخ جلال، الذي واصل دراسته حتى تخرج في كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر".

الندوة الأولى

لندوات الأبنودي بهجة، وللندوة الأولى في حياته حكاية يرويها: "حين عاد الأستاذ توفيق حنا -مدرس اللغة الفرنسية- إلى القاهرة أرسل إليّ وأمل يسألنا إن كنا على استعداد للمشاركة في ندوة شعرية تحت رعاية "مركز الفنون الشعبية" وكان حديث النشأة في ذلك الوقت، رددنا عليه بالموافقة، في الموعد المحدّد سافرت وأمل دنقل قاصدين مقر "رابطة الأدب الحديث" في 7 شارع بنك مصر في القاهرة، للمشاركة في الندوة التي حضرها لفيف من الأدباء والشعراء والصحافيين، استمع إلينا الجميع وأضفوا علينا على الفور صفة شاعرين واصطحبونا بعد الندوة لتناول العشاء في حفاوة كبيرة وتقدير حقيقي وإحساس صادق بالود والإعجاب".

قصائد عاطفية

تفاصيل تلك الليلة يتذكرها الأبنودي: "في الندوة قرأت قصيدتي "الأرض والعيال"، و"الليل والمنجل والمحرات"، وقرأ أمل دنقل قصيدة "أوجيني" وبعض قصائده العاطفية، الغريب أننا لم نشعر بأية رهبة أو خوف، مع أننا كنا نلقي شعرا للمرّة الأولى في القاهرة، وكان الحضور في الندوة مجموعة من كبار المثقفين: د. محمد مندور، عبدالفتاح الجمل، جيلي عبدالرحمن، فاروق منيب، محمد حافظ رجب، عز الدين نجيب، سيد خميس الذي رافقني بعد ذلك في رحلتي الشعريّة إلى أن رحل رحمه الله، إلى شخصيّات أخرى غيّبتها السجون قبل أن يتاح لي معرفة أصحابها!

كنت واثقاً من أن شعري لا يشبه شعراً آخر، لا يقلد أحداً، همس أمل دنقل في أذني قائلا: "عرفت طريقك باكراً أكثر مني فأنا مازلت أبحث عن بداياتي"، قال ذلك رغم جمال الشعر الذي كان يكتبه في تلك الفترة وألقه، أظنه كان يبحث عن قصائد مثل: الكعكة الحجرية، لا تصالح، مقتل القمر وغيرها، لكنه كان متعاليا وواثقا مما يبدعه، كان شعره مكتملاً، وكانت مسألة طموحه الإبداعي تخصه وحده ولا علاقة لها بالآخرين.

حققنا في الندوة ما تصوّر الأستاذ توفيق حنا من نجاح، لم نندهش إذ كنا واثقين، أو لنقل لم نكن في انتظار شهادة من أحد!

وقائع السيرة

للأبنودي مع السيرة بداية، بل بدايات، مثيرة تتعدد زواياها بين الفني والسياسي والاجتماعي، لكن قبل أن نخوض في هذه البدايات، يحسن أولا أن نتعرف إلى الوقائع التي تشكل "بدن" السيرة، ثم نتعرف إلى جهد شعرائها والفرق بين شاعر السيرة وراويتها ومغنيها، يقول الأبنودي: "تحكي السيرة الهلالية زحف قبائل هلال وسليم ودريد والأثبج ورياح من هضبة نجد التي أجدبت سبع سنين كما تقول السيرة، إلى تونس الخضراء، منذ بدء الرحيل اقتراباً من منتصف القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، إلى أن استطاع عبدالمؤمن بن علي إمام الموحدين وقائدهم الانتصار على تلك الظاهرة التاريخية بأكملها، والقضاء على فلول القبائل الزاحفة، إما بـ"مغربتها" أي تحويلها إلى المواطنة المغاربية، أو بمطاردتها إلى جنوب نيل مصر مرة أخرى".

يضيف: "في السيرة يشتبك السبب التاريخي لزحف القبائل في حملة ضارية بالمبرر الديني بالظرف الطبيعي، الأكيد أن قحط بلاد نجد لا يبرر ذلك الغزو التاريخي والعدوان الرهيب على بشر بعيدين جغرافيا، يدينون بالدين نفسه الإسلام، ولذا نجد شعراء السيرة العظام يتجاوزون هذه القسوة بالتركيز على واقعة العدوان على العرب الأشراف في مساجد تونس أثناء صلاة الجمعة على أيدي العوام في زمن المعز بن باديس، ويجعلون الثأر لهذه الواقعة مبرراً للغزو ويحكون عن رحيل جبر القريشي وأخوه قاسم المهيري إلى أشراف العرب في نجد، وكيف أبلغهم بما حدث للأشراف العرب في تونس وحكى عن المذبحة فقرر النجديون الرحيل للانتقام ورد تونس إلى حكم الأشراف، فكانت "السيرة" التي تحكي ريادة ثم تغريبة بني هلال".

أما المصادر التاريخية -والكلام للأبنودي- مثل ابن خلدون وغيره، فتخبرنا أن القبائل زحفت بسبب الجدب إلى مصر، في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وفي الوقت نفسه وقعت ثورة العوام في تونس، واضطر حاكمها المعز بن باديس إلى أن يخلع ولاءه للدولة الفاطمية ويدعو إلى الخطبة في المساجد باسم الخليفة العباسي القائم بأمر الله، هنا دفع الخليفة الفاطمي بالأعراب الزاحفين من الجزيرة العربية إلى عبور النيل لرد المارقين وأقطعهم إمارات وأرضاً في تونس -التي لم يعد يملكها- وعيّنهم ولاة على مناطق لها ولاتها ورشا كل فرد منهم -على ما يذكر المؤرخون- بدينار وفرو نظير عبوره النيل فعبروا بأعداد مهولة وزحفوا كجيوش من جراد "لا تخاف الخالق ولا تحترم المخلوق"، يقول بعض المؤرخين.

تقف بنا نهاية حكاية "الاعتقال" على مفترق الطرق بين ثلاث حكايات: الأولى، التي نؤجلها قليلا، هي حكاية الخروج من مصر وسميتها "المنفى الاختياري". والثانية، نؤجلها أيضاً، هي حكاية "السيرة الهلالية" التي خرج الأبنودي من المعتقل في أبريل 1967 ليبدأ في جمع نصوصها، أما الحكاية الثالثة التي نبدأ بها فهي حكاية "الغناء"، فبسبب الغناء استدعي الأبنودي من خلوته في قريته ليكتب أجمل ما غنى عبدالحليم حافظ من أعماله الوطنية، كانت نُذُر الحرب في الأفق، ثم وقعت الهزيمة العسكرية التي سميت "النكسة" وكان لابد من حضور منشد الوطن.

الأغاني الوطنية والمعتقل

يتذكر الأبنودي: "خرجت من المعتقل إلى أبنود وبدأت أجمع السيرة الهلالية. فجأة لقيت القرية كلها مقلوبة والناس بتجري في الشارع، سألت: "أيه؟" فعرفت أن عبد الحليم حافظ على الهاتف. شوف لما عبد الحليم يتكلم في تلفون أبنود! طبعا دا يوم مهم مازالت أبنود تتذكره حتى الآن!

كانت مكالمة حاسمة، سألته فيها: "أيه يا حليم؟" قال لي: "قاعد عندك بتعمل إيه؟" قلت له: "باشتغل". قال: "بتشتغل بتعمل أيه؟ خذ بعضك وتعال فورا لأن البلد داخلة حرب!". قلت له: "دي بلد مش ح تحارب أصلاً. عمرها ما ح تحارب". فأكد كلامه قائلا: "يا عبد الرحمن البلد داخلة الحرب يعني داخلة الحرب". صدقته فتركت كل شيء وركبت القطار إلى القاهرة. في القطار، الذي تستغرق رحلته بضع ساعات، كنت كتبت فعلا بعض الأغاني التي أصبحت بعد ذلك من ثوابت الغناء الوطني، مثل: "ابنك يقول لك يا بطل هات لي نهار. وأحلف بسماها وبترابها".

رهان "حمدتو" ودكة "رفاع"

تمثل أغاني الأبنودي 1967 قمة في تاريخك الشخصي وعلامة مميزة في تاريخ الأغنية العربية. لكن عن حكاية بدايته مع فن الغناء وأول أغنية.

نصوص الأغاني

يتابع الأبنودي: "طبعاً هناك أبنود وما أمدتني به من أغاني العمل والحياة. وهناك أيضا "سينما فريال" والأفلام التي كنت أشاهدها فيها وكانت الأغاني أكثر ما يشدني إليها وكتيبات الأفلام التي كنت أجمعها وفيها نصوص الأغاني وأسماء المطربين والملحنين التي حفظتها وهي تفاصيل سبق أن أشرت إليها. أضف إلى ذلك "عم رفاعي" ودكته التي كانت منتدى للجلوس أمام دكانه، منتدى وافق على عضويتي فيه بعد أن تأكد من التزامي بآداب الجلسة. على هذه الدكة كنت أستمع إلى ما يبثه راديو "عم رفاعي" من أغانٍ، ذلك أن أبي الشيخ الأبنودي رفض أن يكون "في بيتنا راديو" وأول راديو دخل البيت هو ذلك الذي اشتريته بالتقسيط مع أول مرتب تسلمته من وظيفتي التي لم أمكث على ذمتها طويلاً".

يضيف الأبنودي: "على هذه الدكة عرفت حسين السيد ومرسي جميل عزيز ومحمد علي أحمد وصلاح جاهين وفتحي قورة ومحمد حلاوة وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي وإسماعيل الحبروك وعبد الوهاب محمد ويوسف بدروس.. إلى آخر هذه القائمة التي يصعب حصرها من الشعراء. كما عرفت وعايشت أصوات المطربين وألحان الملحنين، تابعت أخبارهم وعرفتهم كأنني أعيش معهم، كما أصبحت سجلاً حياً لكل ما يتصل بفن الغناء".

مشوار الأغنية

يؤكد الأبنودي أن أول أغنية كتبها ارتبطت بـ"دكة عم رفاعي" وأنه كان طالبا في المرحلة الثانوية حين كتبها: "كان هناك شاب مهتم بالغناء يعمل في دكان عم رفاعي، يدعى "محمد حمدتو"، ذات مرة دارت مناقشة بيننا إذ أبديت رأيي في أغنية ركيكة فتحداني أن أكتب أفضل منها. في اليوم التالي كنت على "الدكة" أقرأ ما كتبته لإثبات قدرتي فحسب وكانت أغنية تقول كلماتها:

قلت أحبك خفت احتار

قلت أسيبك خفت احتار

دا انا من يوم ما عرفتك قاعد

عين في الجنه وعين في النار

هذه الأغنية لحنها الفنان سيد إسماعيل وغناها بعد ذلك بسنوات. أما الأجر الذي حصل عليه الأبنودي عن أغنيته فور كتابتها فكان اعتباره عضوا أساسيا في منتدى "دكة العم رفاعي". لعلكم تلاحظون أنها أغنية مكتوبة باللهجة القاهرية، الأقرب إلى طبيعة ما تبثه الإذاعة من أغانٍ، كأن الأبنودي أراد أن يثبت أنه قادر على كتابة أغان تماثلها.

الراحل ومشواره مع محمد رشدي

يؤكد الأبنودي أن صداقة عميقة ربطت بينه ومحمد رشدي، مواصلاً سرد تفاصيل النجاح الذي لقيته أغانيه معه، متذكرا، بشكل خاص، أغنية فاقت شهرتها كل حد هي "عدوية" التي كتبها من وحي فتاة ريفية صغيرة، ولحنها بليغ حمدي. يذكر أنه حصل على 15 جنيهاً دفعة واحدة أجرا عنها من محمد رشدي. يقول: "كان أجراً ضخماً جداً إذ كانت أجورنا من الإذاعة لا تتجاوز خمسة جنيهات. بعد ذلك كتبت وغنى رشدي: "عرباوي، ويا حسن يا مغنواتي، ويا قمر يا اسكندراني، وأنت مين ياللي انا مش عارفك"، التي كان الشارع وما زال يردد أحد سطورها كأنه مثل شعبي، وهو سطر يقول "دنيا غروره وكدابه.. زي السواقي القلابه". كما قدمت مع رشدي: "مجاريح، يا ليلة ما جاني الغالي، شباكك العالي".

«الخال» يروي تفاصيل أغنية «وهيبة» والقلق من نجاحها

كانت «وهيبة « الأغنية الأولى التي بثتها الإذاعة من تأليفه نصاً لم يتوقع الأبنودي أن يغنى وعرف أنه أصبح أغنية مستعماً إلى الإذاعة مصادفة مع أصدقائه! يستعيد الأبنودي تلك الذكرى: «أول أغنية لي في الإذاعة المصرية كانت قصيدة نشرتها في «الأهرام» يقول مطلعها: انجد قطنك م الدود. وبينما أنا سائر في ميدان العتبة مع الأستاذين صلاح عيسى وسيد حجاب، سمعت عبر راديو في أحد أكشاك المياه الغازية موسيقى وغناء فقلت لهما: «أعرف هذا الكلام الذي يغنى!» ثم تأكدت أنه الكلام نفسه الذي نشرته في «الأهرام». عرفت في ما بعد أن الكلام أعجب الأستاذ محمد حسن الشجاعي، مسؤول الموسيقى والغناء في الإذاعة آنذاك، فأخذه من الجريدة وأعطاه لملحن ومطرب ليصبح أغنية، ثم راح يبحث عني لأتعاقد مع الإذاعة ولأكتب المزيد من الأغنيات».

طريق السلامة

يتابع: «كلفني الشجاعي بكتابة ثلاث أغانٍ، واحدة عن السد العالي غناها الراحل محمد قنديل والثانية «بالسلامة» غنتها الفنانة نجاح سلام وما زالت الإذاعة تبثها يوميا كل صباح كلحن مميز لبرنامج «طريق السلامة». والأغنية الثالثة، التي أعتبرها بداية حقيقية، هي «وهيبة»، أغنية لم تشتهر فحسب، بل أحدثت دوياً رهيباً وكانت أول عمل جمعني والفنان الراحل محمد رشدي».

المدهش أن الأغاني الثلاث كتبت في يوم واحد! يقول الأبنودي: «كنت في ذلك الوقت أسكن في عوامة في منطقة «الكيت كات» أنا ومجموعة من الأصدقاء، كنا كلنا «على فيض الكريم»، مفلسين، يعني الوحيد فينا الذي كان يملك مالا كان الصديق الناقد الراحل سيد خميس الذي كان يتطوع بدفع الإيجار عنا جميعا، عندما أبلغت «زملاء السكن» نبأ تكليف مدير الإذاعة لي بكتابة ثلاث أغانٍ فرحوا كثيراً وتركوا لي العوامة يوماً كاملاً لكي أكتب في مناخ هادئ تماماً، وكان عليَّ أن أستثمر «منحة الأصدقاء» وأنتهي من الكتابة في يوم واحد، وذاك ما حدث وخرجت «وهيبة» إلى الحياة بكلمات تقول:

الليل بينعس ع البيوت وعلى الغيطان

والبدر يهمس للسنابل والعيدان

تحت السجر واقفة بتتعاجبي

دى برتقانة والا دا قلبي

قلبي طرح

نوار فرح

لما رأيت رمشك سرح

كحلة عينك يا وهيبة

جارحه قلوب الجدعان

ليبدأ تاريخ جديد للأغنية، مع كلمات ومعان لم تشهدها من قبل».

يتذكر الأبنودي أن الشجاعي أبدى بعض القلق من كلمات «وهيبة» حين استمع إليها: «أعادها الشجاعي إليَّ قائلا إن منير مراد وغيره من الملحنين رفضوها، يبدو أنهم لم يستوعبوا ما في كلماتها من روح كانت جديدة تماما فاقترحت عليه أن يعطيها للفنان عبد العظيم عبد الحق مؤكداً أنه صعيدي مثلي وسيفهم معناها. وافق الشجاعي وأعطاها لعبد العظيم الذي لحنها ببراعة لم يخف الشجاعي إعجابه بها. وحين سألني عن المطرب الذي يمكن أن يغنيها قلت، من دون أي تردد، إنه المطرب الذي غنى أدهم الشرقاوي، أي محمد رشدي، الذي كنت أعرفه وهو لا يعرفني، استمعت لصوته منذ كنت في أبنود وهو يغني قولوا لمأذون البلد، ويا أم طرحة معطرة فشعرت بأنه قريب من قلبي وازداد قرباً حين استمعت إليه في أدهم الشرقاوي التي كنا نلتف حول الراديو بالعشرات لنستمع إليها. لهذا قلت لا يصلح لغناء «وهيبة» إلا محمد رشدي فقال الشجاعي: «لكنه لا يستطيع الغناء الآن فقد أصيب بسبب انقلاب الأتوبيس (الحافلة) أثناء سفره إلى السويس لإحياء حفل هناك». وهو الحادث الذي ماتت فيه المطربة نادية فهمي. قلت له: «الحادث تسبب بكسر ذراعه وساقه لكنه لم يكسر صوته!» فرد الشجاعي: «ابحث عنه وأحضره طالما أنك مُصر عليه».

معهد الموسيقى

يقول الأبنودي: «قصدت معهد الموسيقى العربية لأحصل على رقم هاتفه. هناك أذاقوني الأمرين لأنهم لا يعرفونني ورفضوا أن أحصل على الرقم. إزاء إصراري طلبوه على هاتف المعهد لأكلمه فحسب. لم تكن المكالمة مشجعة إذ شعرت بأنه غير متحمس، كما رفض إعطائي رقم هاتفه وبعد إلحاح شديد حدد موعداً لنلتقي في مقهى «التجارة» في شارع محمد علي الذي يرتاده المطربون والموسيقيون. في الموعد وجدته يتعامل معي بشيء من تصرفات «النجوم» وهو ما لم أرتح إليه. لكنه بعد أن استمع إلى الكلمات طار من الفرح وعلى الفور أصبحنا صديقين وسهرنا تلك الليلة معا، قلت له إنني معجب جدا بصوته وأدائه وأخبرته بضرورة أن يهرب بسرعة من لقب «مطرب الأفراح» الذي كان معروفا به. بعد ذلك سمع محمد رشدي، بمنتهى الإعجاب، لحن الأغنية وحفظه مع عبد العظيم عبد الحق، وأذيعت «وهيبة» لتصبح على كل لسان وأجد نفسي مؤلف أشهر أغنية في مصر».

يؤكد الأبنودي أن صداقة عميقة ربطت بينه ومحمد رشدي، مواصلاً سرد تفاصيل النجاح الذي لقيته أغانيه معه، متذكرا، بشكل خاص، أغنية فاقت شهرتها كل حد هي «عدوية» التي كتبها من وحي فتاة ريفية صغيرة، ولحنها بليغ حمدي. يذكر أنه حصل على 15 جنيهاً دفعة واحدة أجرا عنها من محمد رشدي. يقول: «كان أجراً ضخماً جداً إذ كانت أجورنا من الإذاعة لا تتجاوز خمسة جنيهات. بعد ذلك كتبت وغنى رشدي: «عرباوي، ويا حسن يا مغنواتي، ويا قمر يا اسكندراني، وأنت مين ياللي انا مش عارفك»، التي كان الشارع وما زال يردد أحد سطورها كأنه مثل شعبي، وهو سطر يقول «دنيا غروره وكدابه.. زي السواقي القلابه». كما قدمت مع رشدي: «مجاريح، يا ليلة ما جاني الغالي، شباكك العالي».

نكسة يونيو

يقول الأبنودي: «كان خبر الهزيمة أسوأ خبر أسمعه في حياتي، أحسست بأنني في حاجة إلى أن أكون وحدي فتسللت عائدا إلى البيت أحاول لملمة كياني المبعثر. كان الخوف يتسلل إلى النفوس، الخوف من المستقبل وعليه، الخوف على كل هذه التجربة العظيمة رغم أخطائها - التي عانيت شخصيا من قسوتها - الخوف على المدارس والمصانع، على السد العالي، على الحلم الكبير الذي لم يتح لنا الوقت الكافي للاستمتاع به ولو باعتباره مجرد حلم! في الشوارع كان الناس يتبادلون النظر في العيون، ومرت لحظات لا أعتقد أنها مرت على مصر قبل هذا اليوم، وأعتقد أن السينما خسرت الكثير لأن أحدا لم يفكر في حمل «كاميرا» وتصوير حالة الشوارع والناس في ذلك اليوم!

أخرجني صوت عبد الحليم حافظ من الاستغراق في ما كنت فيه، حين هاتفني لينبهني إلى الخطاب الذي كان الرئيس جمال عبد الناصر على وشك إلقائه ويدعوني إلى بيته لأسمعه معه.

في بيت عبد الحليم التقينا، أعني الكاتب الصحافي أحمد رجب وبليغ حمدي ومجدي العمروسي ومفيد فوزي وأنا، وطبعا «عبد الحليم»، ثم جاء كمال الطويل ومعه يحيى الطاهر عبد الله وكانا تعارفا من خلالي. وسكتنا كلنا لنتابع جمال عبد الناصر وهو يطل من شاشة التلفزيون بتلك الصورة الحزينة التي حطمت قلوبنا، ربما كنا نتوقع أن يناور أو يموه فإذا به يعترف بالهزيمة ويتحمل مسؤوليتها معلنا تنحيه. وانهمرت دموعنا في بكاء حقيقي، ورأيت بليغ حمدي وهو يتقلب على الأرض ويعض أطراف السجادة ويبكي بصوت عالٍ. لا أذكر من الذي سأل أولا: ماذا سنفعل؟ أو من الذي صاح أولا: لابد أن نمنع عبد الناصر من الاستقالة وأعتقد أنها صيحة تكررت في كل بيت وكل تجمع في مصر. أعتقد أن كل مجموعة كان من بينها شخص يقول لا بد أن نمنع عبد الناصر من الاستقالة. وبعد نهاية خطاب «عبد الناصر» نزلنا إلى الشارع، حيث انصرف الطويل ويحيى معا، وذهب بليغ إلى بيته وركب الباقون السيارة مع عبد الحليم، وقادها عبد الفتاح السائق في اتجاه بيت عبد الناصر، كانت الشوارع خالية تماما، لكن بمجرد أن عبرنا نفق العباسية فوجئنا بطوفان من البشر لا ندري من أين جاء، كأن كل الناس في كل البيوت فكروا كما فكرنا وفعلوا ما فعلناه، لنجد أنفسنا نقطة في بحر يهددنا بأن نغرق فيه -غرقاً فعلياً- وأذكر أن كثيرين رأونا لكنهم لم يعيرونا التفاتا رغم أنهم رأوا عبد الحليم حافظ وعرفوه. وكما توحد الناس في التفكير وفي المسير توحدت الهتافات أيضا تطالب عبد الناصر في البقاء. ولم يكن ممكنا أن نواصل طريقنا، إذ لم يعد هناك شارع، لم يعد ممكنا أن ترى الأسفلت الذي تغطى تماما بالبشر، وبمعجزة استطاع السائق أن يجد منفذا إلى طريق كورنيش النيل، وهو يزحف بسرعة تقدر بالسنتيمتر، ومن الكورنيش إلى كوبري أبو العلا حتى وصلنا إلي بيت عبد الحليم في الزمالك».

التأييد الشعبي

وبسبب هذ المشهد الذي لا يمحى من ذاكرته، مشهد التأييد الشعبي الجارف للرئيس عبد الناصر يسخر الأبنودي بشدّة ممن يصرون على أن الاتحاد الاشتراكي كان وراء خروج الناس لمنع الرئيس من الاستقالة ويتساءل: «أي اتحاد اشتراكي هذا الذي كان قادرا على حشد الملايين في العاصمة والمحافظات، في المدن والقرى، بعد دقائق من خطاب التنحي؟ وإذا صح أنه أخرج الناس الذين رأيناهم فمن الذي دفع بنا نحن إلى الشارع الغارق في طوفان الناس الى درجة كادت تقتلنا؟ ويجيب: لا شك في أن من قالوا ذلك لم يتح لهم أن يروا الشارع آنذاك ولو رأوه لغيروا رأيهم!

أبدا.. بلدنا للنهار

عدى النهار

والمغربية ماشية

تتخفى ورا ضهر الشجر

وعشان نتوه في السكة

شالت من ليالينا القمر

وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها

جانا نهار ما قدرش يدفع مهرها

يا هل ترى الليل الحزين

أبو النجوم الدبلانين

أبو الغناوي المجروحين

يقدر ينسيها الصباح

أبو شمس بترش الحنين؟

أبداً

بلدنا للنهار

بتحب موال النهار

لما يعدي في الدروب

ويهدي قدام كل دار.

back to top