العراق في مرحلة ما بعد سقوط صدام (8-12) واشنطن تعزز وجودها و«الصحوات» تدخل على الخط

نشر في 15-02-2015
آخر تحديث 15-02-2015 | 00:06
يعد سقوط نظام صدام حسين في العراق محطة تاريخية مفصلية في المنطقة، ومن هذا المنطلق تنشر «الجريدة»، صفحات كتبها وفيق السامرائي رئيس جهاز الاستخبارات في عهد صدام، عن رؤيته للأحداث منذ سقوط بغداد، وصولاً إلى الحرب الأخيرة على «داعش»، لمنح القارئ فرصة فريدة للاطلاع على الأحداث من زاوية شخصية مطلعة، لفهم أوضح للماضي وتشريح أدق للحاضر، وقابلية لاستشراف المستقبل، وفي ما يلي الحلقة الثامنة من هذه المذكرات القيمة:
تدهور أمني خطير، اتساع التمرد، فشل الإجراءات العسكرية في كبح جماح المسلحين، خلافات سياسية عراقية مستمرة، انتشار فظيع لتنظيم القاعدة، الاستنزاف المالي مستمر، فشل كبير في التأثير على المحيط الإقليمي وشعور إيراني وسوري في نجاح استراتيجيتيهما، تخبط أميركي، والحلفاء لا يمكنهم الاستمرار بالبقاء في العراق في ظروف لا وجود لآفاق الحسم فيها. وفرضت المعطيات على الأميركيين البحث في الخيارات المؤلمة، ومنها: إما إرسال تعزيزات ضاربة كبيرة إلى العراق وتغيير سياسة العمل الميداني، وإما الانسحاب إلى دول مجاورة ومنها الكويت للسيطرة على الأمن الخليجي وترك العراق يحترق. وقد أصاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن هذه المرة، فقرر إرسال قوات إضافية من قوات الضربة بحدود 30000 جندي أميركي منهم وحدات من قوات السترايكر، وبدأ تدفقها بشكل سريع وانتشرت في بغداد ومناطق أخرى. وقد التقيت الجنرال كيسي قائد قوات التحالف في قصر الفاو (أحد قصور صدام)، وأبلغني بوجود لواء في مدينة الموصل تنتهي مهمته في منتصف 2006، وبسبب التدهور الأمني في بغداد قرر نقله إلى بغداد فوراً ومدد مهمته ستة أشهر، وذكر أن لواءين آخرين سيصلان من أميركا نهاية 2006 وبداية 2007.

مع الجنرال جون أبوزيد

وصل الجنرال جون أبوزيد قائد القيادة المركزية للقوات الأميركية المسؤولة عن منطقة الخليج والشرق الأوسط، إلى بغداد، وكانت إحدى محطاته في رئاسة الجمهورية، وعقد اجتماعاً مع الرئيس جلال الطالباني بحضور الجنرال جورج كيسي قائد قوات التحالف في العراق وحضوري. وكان يبحث عن حلول لإنقاذ الموقف. فطرحت عليه فكرة الصحوات، ابتداء بالمقترح التالي: إن الوضع على الطريق العام بين بغداد وتكريت مركز محافظة صلاح الدين أصبح التنقل عليه أكثر صعوبة، وليس لدى العراق القوات الكافية لضمان التنقلات على هذا المحور المركزي المهم، لذلك، نقترح تشكيل قوات غير نظامية من أبناء العشائر على طرفي الطريق، ولدينا من العلاقات مع وجهاء وشيوخ العشائر وعلاقات إنسانية ما يساعد على تشكيل القوة وتأمين الطريق. وقد أيد الرئيس الطالباني الفكرة بلا تردد معززاً قوله إن معظم رؤساء العشائر يترددون باستمرار لزيارة الجنرال السامرائي، وبين قناعته في وجود فرصة كبيرة للسيطرة على الموقف من خلال التعاون مع العشائر.

تمهل الجنرال أبوزيد قليلا والتفت إلى الجنرال كيسي طالباً رأيه، فرد كيسي بهدوء بأنهم لا يستطيعون تأييد العمل مع قوات غير نظامية. فكانت هذه هي المحاولة الأولى لفكرة الصحوات التي لابد أن علقت في ذهن القيادات العسكرية الأميركية، حتى لو لم يوافقوا عليها في حينه. وتدهور الموقف وأصبحت الخيارات أكثر صعوبة.

مساعدة مشروطة

مع انتهاء اللقاء مع الجنرال جون أبوزيد، كان الصحافيون في الانتظار، وطلب مني الرئيس الظهور مع الجنرال ومشاركته الحديث لأهمية المرحلة وحساسيتها، وأثناء الحديث قال الجنرال بوضوح، موجهاً كلامه إلى المناطق التي يسكنها العرب السّنة والواقعة تحت ضغط عنف القاعدة وغيرها: إذا أراد العرب السّنة أن نؤمن لهم الحماية والأمن فعليهم التوقف عن مهاجمة قوات التحالف والتعاون معها ضد تنظيم «القاعدة» والمسلحين الآخرين. وكانت رسالة بالغة الوضوح والأهمية. وعقبت على هذه الرسالة تعقيبا واضحا، مشددا على أن مواصلة الانخراط في العنف لن يحقق أي نتائج إيجابية، وسيقود إلى المزيد من الخسائر من دون مبررات، وإذا انسحبت القوات الأميركية (المقصود في ذلك الوقت) فستكون النتائج كارثية، لعدم وجود قوات أمنية قادرة على ضبط الأمن. ويمكن أن نتصور الوضع الذي ينجم عن غياب أكثر من 170000 عسكري من قوات التحالف عن العراق. ومن الناحية المنطقية والعقلانية، فإن ما عرضه الجنرال يمثل تحذيراً شديداً، ولا أحد يمكنه لومه على ذلك، والتذرع بأنهم كانوا سبب المعضلة وانفلات الأمن لا يجدي نفعاً.

قوات الضربة

بوصول تعزيزات قوية من قوات الضربة الأميركية بدأت المتغيرات تظهر على الأرض، ونشطت عمليات البحث والتحرك ومهاجمة مناطق انتشار «القاعدة»، ومع البدء بأعمال الصحوات، وتزايد قدرات وزارتي الدفاع والداخلية من جيش وشرطة اتحادية، ظهرت ملامح ملموسة لتطورات أمنية إيجابية في غرب العراق وبغداد، وأخذت المبادأة تنتقل تدريجياً لمصلحة العراق. إلا أن الهجمات الانتحارية تزايدت أعدادها بصورة لافتة، وتجاوزت حتى عام 2006 أكثر من 1000 عملية انتحارية شملت أهدافاً مهمة، منها تم ضرب وزارتي الخارجية والمالية، مستهدفة مواقع سيادية. كما ضربت الأسواق العامة بطريقة إجرامية قاسية. مع ذلك، بقيت الحياة مستمرة دلالة على قوة إرادة الشعب العراقي على التحمل.

خلاف ما يظن البعض، فإن لدى الأميركيين استعداداً لتحمل المزيد من الخسائر البشرية في حالة الحرب، وما حدث من فشل لعملية الأمل والانسحاب من الصومال لا يعكس الوضع الحقيقي عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاستراتيجية العليا والأمن القومي. وقد تحملت القوات البرية الأميركية خسائر كبيرة في العراق، حتى لو اعتبرت قليلة قياساً بخسائر حرب فيتنام، ولم تتردد التشكيلات البرية في عملياتها، إلا أنها ارتكبت أخطاء كثيرة (قبل وصول قوات الضربة) أسهمت في وقوع المزيد من الخسائر، ومنها:

• سلوك طرقات فرعية محددة داخل المدن، وتكرار المرور عليها، وتعرض قوة الواجب لتفجير عبوات ناسفة في المواقع نفسها. والغريب أن تتكرر التفجيرات متطابقة في النوع والمكان دون تغييرات في السلوك.

• الانتشار داخل المدن مع غياب القدرة على تغطية المناطق المهمة، والتأخر في تشكيل جهاز شرطة فعالة، وفق خطة انتشار فعال يضمن السيطرة على مفارق الطرق المهمة والساحات.

• التعامل بانحياز مع أفكار ومعلومات وتحريض العناصر التي قبلت التعاون معهم لأسباب مالية ومصلحية، دون التحسب للسلوك الكيدي لبعض الجماعات والأشخاص، ما أدى إلى تراكم التذمر نتيجة الضرر الذي أصاب كثيرا من المواطنين دون ذنب حقيقي. وهؤلاء النفر من أبناء مدن شمال بغداد وغربها تحديدا ساهموا في تدهور الأوضاع فحازوا صفة المخبر السري سيئ الصيت، ومنهم من شغل مواقع مهمة في مراحل لاحقة تكريماً لمعلوماته الكيدية.

• الاعتقالات العشوائية دون أدلة مادية أو شبه مادية، ووصلت أعداد المعتقلين إلى مئات الآلاف وفقاً لتقديرات غير رسمية، أغلبيتهم العظمى من الأبرياء.

• إهمال معسكرات الاعتقال من ناحية السلوك الفردي للمعتقلين والاتصالات واللقاءات، فتحولت المعتقلات الرئيسية إلى مدارس لتفريخ المزيد من الإرهابيين، ونسبة كبيرة ممن أطلق سراحهم تحولوا إلى إرهابيين نتيجة التثقيف والشحن التكفيري داخل السجون. وكان معتقل بوكا في منطقة أم قصر جنوب البصرة أحد أهم وأخطر المعتقلات، فمنه تخرج المزيد من الإرهابيين بمن فيهم رئيس تنظيم داعش أبوبكر البغدادي. ويمكن القول إن معظم الذين اعتقلوا من «القاعدة» في هذا المعتقل وأطلق سراحهم عادوا إلى العمل مع التنظيم بقسوة أشد وإجرام مفرط، ومن المثير أن يطلق الأميركيون والعراقيون سراح متهم بعشرات العمليات الإرهابية ليعود إلى القتال، ومن هذا النمط يقودون مجموعات من الدواعش في محافظة صلاح الدين وغيرها. وإذا كان الأميركيون قد أطلقوا سراح عدد من المجرمين لأسباب تتعلق بخلل في التحقيق ونقص المعلومات أو بسبب تطبيقات لمبادئ حقوق الإنسان أو لتسليمهم إلى الجانب العرقي، وترك مسؤولية التصرف للمؤسسات العراقية، فإن إطلاق المزيد من المجرمين من قبل الأجهزة العراقية جاء نتيجة الفساد ومقابل أموال مجزية تلقاها المعنيون في المعتقلات والأمن والتحقيقات، وقد شمل الكثير من قياديي «القاعدة» بهذه الآليات المنحرفة، فضلاً عن عمليات اقتحام السجون الرئيسية في أبوغريب وتكريت والبصرة، وتهريب المئات من عتاة الإرهابيين، والتي اشترك فيها الاهمال والفساد ونظرية المؤامرة التي بقيت ملامحها دون إجابات شافية، وستبقى كذلك على ما يبدو، فالأيام تمضي، والوجوه تتغير وتختفي، والأوراق تحرق، والفساد مستمر.

• عرقلة تجهيز القوات العراقية بالأسلحة الضرورية، فالأميركيون لا يريدون تطوير قوات غير محسومة الولاء وغير مضمونة الصداقة مزودة بأسلحة تؤثر على وجودهم في ظروف لا يمكن التحكم بعدم تحولها إلى ظروف غير طبيعية، أي أن تحول النظرة تجاه العراقيين من العدو في وقت النظام السابق إلى الصديق والحليف بعد التغيير بقي قيد الدراسة والتأمل. وهل يعقل أن يبقى العراق دون طائرة قتال واحدة، اعتراضية أو هجوم أرضي حتى بدء حرب الدواعش، رغم مرور أكثر من 11 عاما على سقوط النظام؟! وهل يعقل أن يظهر عدم وجود أسلحة كافية لمعالجة هجمات مدرعة ولو بتقييد حركتها في مقتربات معينة من خلال زرع الألغام؟

• لم يتعامل الأميركيون بطرق استراتيجية لمعالجة المواقف المعقدة، وأبقوا تعاملهم منصباً على الجوانب التعبوية المباشرة، وبذلك تركوا الباب مفتوحا أمام التعايش مع تعقيدات يومية لا حصر لها، ونسوا أن الحرب لا تربح بمنطلقات ميدانية تكتيكية، بل بخطوات أكثر سعة وأبعد مدى، ففي المجالات المحدودة يصبح تحقيق النصر معقداً وبطيئاً وبعيداً وربما مستحيلاً. فتزاوجت الأخطاء الميدانية والاستراتيجية، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، فجاء الوليد كسيحاً.

الصحوات على الخط

جاء إلى رئاسة الجمهورية الشيخ عبدالستار أبوريشة، وهو من عائلة معروفة في محافظة الأنبار فقدت عدة أشخاص على يد تنظيم القاعدة. وتم ترتيب لقاء له مع الرئيس الطالباني لعرض فكرة دعمه لتشكيل وحدات عشائرية في محافظة الأنبار للتصدي للقاعدة، فأيد الرئيس الفكرة، وبعد انتهاء اللقاء بقيناً في مكتبي وواصلنا النقاش مطولاً، ولمست لديه حماساً جدياً وقدرة على العمل، غير أن القرار الرئيسي هو بيد الأميركيين من جهة ورئيس الوزراء من الجانب العراقي، ويبقى دور رئاسة الجمهورية مؤثرا معنويا وسياسيا وإعلاميا. وفي معرض الحديث ذكر أبوريشة أنه تلقى دعما ابتدائيا من رئيس الوزراء المالكي. وكانت من ملاحظاتي له أن يحرص على دماء الناس وتجنب الإضرار بالأبرياء. وخلصت إلى أن لهذا الشخص قراءة شاملة للموقف في محافظة الأنبار، التي كانت قاعدة انتشار لتنظيم القاعدة. وبعد أشهر من العمليات، وصل الرئيس الأميركي جورج بوش إلى قاعدة عين الأسد غرب العراق، والتقى الشيخ أبوريشة وقدم له دعما مفتوحا، وهكذا اضطر الأميركيون إلى وضع فكرة الصحوات موضع التنفيذ، بعد أن تخلوا عن أفكارهم وسياقات أعمالهم الجامدة السابقة. فالأفكار العسكرية وإن كانت خلاقة ومتطورة فإنها تبقى بحاجة إلى استحضار نظريات المؤامرة التي تجيدها أجهزة الاستخبارات والأمن، فالعاملون في هذه الأجهزة يتعاملون دائماً وفق تخيلات متعددة الأبعاد، وإن رجل الاستخبارات الذكي يفترض أن يبحث عن الأجواء غير المرئية.

الصحوات تتقدم

ثبت أن فكرة الصحوات ناجحة وجاءت في ذروة التصعيد، ولو قدر العمل بها في وقت مبكر لما تدهور الوضع الأمني، ولأمكن احتواء كثير من التهديدات، فقد انخرط عشرات آلاف الشباب في محافظة الأنبار وبغداد وصلاح الدين وديالى، وتجاوز عددهم 97000 مقاتل فيما اعتبر قوات شبه نظامية ويتلقون رواتب شهرية منتظمة، وهو رقم شكل قوة مساندة حقيقية فعالة ضد تنظيم القاعدة، وساعد على توفير فرصة ملائمة لدخول أبناء المناطق الساخنة إلى القوات المسلحة وأجهزة الأمن في أجواء قوية من الشعور بالأمن. وتولت الصحوات مسؤولية أمنية ليست مؤازرة للقوات الأمنية فحسب، بل إنها قامت بنشاطات هجومية وتطهير مناطق في محافظة الأنبار، وأسهمت في السيطرة على الطريق الاستراتيجي الدولي الذي يربط العراق بسورية والأردن. وهو أهم الطرق الاستراتيجية العراقية. وهو ما ساعد على انخراط أكثر من 30000 شخص من أبناء المنطقة في جهاز الشرطة المحلية، إلا أنهم لم يقووا على التماسك والصمود في وجه الدواعش بعد سبعة أعوام، بسبب المؤامرات والاضطراب السياسي الكبير.

وفي سبتمبر 2007 قتل الشيخ عبدالستار أبوريشة بسيارة يقودها انتحاري أثناء تنقله على مقربة من بيته الريفي، بعد عشرة أيام على لقائه الرئيس جورج بوش. ولم يؤثر الحادث على مشروع الصحوات التي أخذت بعداً حاسماً في تلك المرحلة المهمة من تاريخ العراق، فقد أكمل الآخرون المسيرة التي حققت نجاحاً كبيراً.

ومع أن الصحوات قاتلت بشجاعة وساعدت في فرض الأمن، فالحقيقة التي لابد من الوقوف عندها هي أنه لولا قوات الضربة الأميركية وقوات التحالف الأخرى التي بلغ تعدادها في فترة ما نحو 200000 عسكري، لما أمكن تحقيق أي تقدم، فالدور الأكبر يعود إلى قوات التحالف وبقي دور العشائر مسانداً ومبادراً في حالات كثيرة، إلا أن أخذ التجربة بشكل مجرد والتعويل مستقبلا على قوات محلية في تحرير الأراضي العراقية لن يكون مجدياً، وسيكون استنساخا لتجربة لها معطياتها الخاصة غير القابلة للاستنساخ.

معارك صعبة

خلال الأعوام 2006-2008 شهد العراق معارك مهمة اعتمدت الضربات الاستباقية وتشديد الإجراءات الأمنية في آن واحد، وفي كل قواطع العمليات، وساهمت هزيمة «القاعدة» في الفلوجة جدياً في تغيير المعادلات، لتشمل العراق كله. وكانت المعارك صعبة، وردود الفعل الإرهابية قاسية ضد المدنيين خصوصا، ورويداً رويداً بدأت المراهنات على تطوير مشروع الاستهداف الطائفي إلى حرب طائفية شاملة تفشل، فمع كل تقدم عسكري وأمني تعود الحياة المجتمعية إلى سابق عهدها خلال فترة وجيزة. وأثبتت دروس العمليات الأخيرة وعملية تعزيز القوات الأميركية أن السياسة الأميركية خلال المرحلة الأولى، التي أعقبت سقوط النظام، بقيت ضعيفة مضطربة، ولم تستند إلى رؤية واضحة، فيما حقق تطوير الاستراتيجية وضخ قطعات ضربة قوية تقدما مذهلا على الرغم من تمكن الطرف الآخر من زيادة قدراته وتنظيماته واتساع الحاضنات الآمنة. وهذا يقود إلى درس في ضرورة الاعتماد على نظرية الحسم المتوازن -ضمن الحدود الإنسانية- بدل انتظار نتائج من سياقات عمل ضعيفة.

وهزم «القاعدة» ميدانياً، وتمت السيطرة على كل المدن، وأصبح في وسع القوات الأمنية العراقية الوصول إلى كل متر من الأرض الوطنية، وعادت مستويات العمليات إلى دون المعدلات التي كانت عليها طوال سنوات ما بعد التغيير منذ بدء النشاطات المسلحة. إلا أن الخلايا السرية بقيت موجودة وبقي الفكر الضال في عقول آلاف الأشخاص، وبقيت السجون مشحونة بالمعتقلين. وكان مفترضاً القيام بمراجعة معقولة للتمييز بين المعتقلين، والوضع هنا لا يتعلق بشريحة دون أخرى، فقد بقي آلاف من التيار الصدري في السجون إلى جانب عشرات الآلاف من مناطق أخرى أغلبيتهم من المناطق الساخنة شمال بغداد وغربها.

وبدلا من العمل على تعزيز الأمن وتطوير العملية الديمقراطية وتطويق الطائفيين، بدأت المناورات تحاك، وأصبح الصراع من أجل وجود العراق موحداً بدل أن يجري الحراك من أجل تقويم الممارسات الخاطئة واجتثاث فساد لا مثيل له.

وجاءت مرحلة عسيرة أخرى من مراحل تاريخ العراق، بدأت باعتصامات واسعة في محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى ونينوى، رفعت خلالها مطالب مشروعة وأخرى نظرية لا تخلو من المبالغة، وبدت علامات التدهور واضحة، وأخذت حركة المعلومات تزداد قوة وتفصيلا، والتدخلات الإقليمية تتعاظم، خصوصاً، وضخ الأموال من خارج العراق مستمر. وكل أسبوع يمر يشهد تصعيدا لفظيا وتهديدات بالزحف إلى بغداد، وأصبح الوضع مفتوحا إلى خيارات خطيرة، وغابت الوساطات الداخلية والخارجية غياباً غريباً.

back to top