السيد هاني فحص... العمامة المعتدلة رحلت

نشر في 19-09-2014 | 00:03
آخر تحديث 19-09-2014 | 00:03
انا هنا الآن اصلي مأموماً وإماماً إن شئت شاء بعضكم أم لم يشأ
«لم يعد لنا إلا الدعاء»، كتب نجله السيد مصطفى فحص فيسبوكياً منذ أسابيع. «أشفق علينا بنفس بسيط، ضئيل، قصير، نفس واحد فقط}... قالت ابنته بادية فحص. ولكن السيد العلامة هاني فحص (1946 - 2014)، رجل الانفتاح والتعددية والصوت الحر في زمن الانقسام والتعصب والتشنج، رحل. غادرنا ليزداد العالم {داعشيةً» و{حالشيةً». وبدا بعض الشيعة غير معني برحيل أحد أبرز الوجوه الشيعية المتمايزة عن «حزب الله» في مواقفه ولقاءاته وتحركاته، غير مهتم بوداع علامة لم يكن تحت جناح أحد يوماً.

صديق الجميع، الغريب قبل القريب، المناضل في مواجهة {الكراهية}، كان متوغلاً في ثقافة الحوار، استقال في الأمس فكان رحيله سيّد الحزن.

كان السيد هاني فحص من بين شخصيات دينية لبنانية نادرة جمعت العمامة والحياة المدنية في آن، من دون حواجز أو تشنجات. هو النجفي الذي كان قريباً من السيد موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين، وأصدر كتاباً عنهما.

العلامة، اللبناني الذي كان مؤيد الخميني في ثورته قبل أن يبتعد عنه حين أصبح سلطوياً، والفتحاوي الذي كان قريباً من ياسر عرفات قبل أن يغادر تلك المرحلة ويكتب عن سلبياتها، علماً أنه عندما بدأت الثورة الإيرانية أنشأ عام 1978 تواصلاً بين ياسر عرفات وبين الخميني، وقد زار الأخير في منفاه الباريسي، ورافق عرفات على طائرة زارت إيران بعد أيام من انتصار الثورة الإيرانية ضد الشاه.

الإمام، الحواري الذي جمعته صداقة مع السياسي اليساري سمير فرنجية، هو الشيعي صاحب الحوار الديني الناضج الذي كان قريباً جداً من جورج حاوي الشيوعي، بل قريباً من القائد اليساري محسن إبراهيم. وهو المعمم الأقرب إلى العلماني، وإليه لجأ مثقفون كثر لرعاية زواجهم.

السيد، بعمامته السوداء، كان جليس المثقفين والشعراء والمطارنة والناس العاديين والأطفال. ثقافته الواسعة واطلاعه جعلاه يتخطى جدران الطوائف والأحزاب والجماعات والعصبيات، ويكتب في آن في جريدتي {السفير» و{النهار» المتناقضتين في السياسة والثقافة، ولا يتردد في ممازحة الجميع حتى عُرف بفكاهته المحببة.

لم يمنعه سكنه في ضاحية بيروت الجنوبية، من قول موقف نقدي لـ{حزب الله» في سلوكياته السياسية، ذلك الحزب المتوغل في المنطقة حتى {الاحتلال}. خاطب قيادات الحزب بقوله {أيها الأخوة، الذين كانوا أحبة، وما زالوا قادرين أن يكونوا أحبة}. بهذا المعنى كان السيد لطيفاً جريئاً صريحاً، ينتقد من موقع الند والحريص على مستقبل وطنه. أصرَّ في كلمات بدأها بـ{الأخوة في {حزب الله} حفظكم الله والسلام عليكم ورحمة الله}، على إيقاظ الحزب من غفلة أودت بمركبته نحو التهلكة بعد توغله في الأحداث السورية عميقاً، وعلى مخاطبته لتدارك سلوك مذهبي قتل الشيعة قبل السنة، فكبّدهم خسائر بشرية {حملتها} رايات نصر رُفعت على طرقات بيروت، ورافقت صور {شهدائه} الذاهب إلى جنوب لبنان أو بقاعه والآتي منهما، في ظل توتر مذهبي يكاد يودي بالمجال العربي إلى الهاوية. ولكن لا أذان صاغية.

فحص، لم يَسلم من هجمات بعض الصحف الممانعة، إذ اتهمته بأنه ينتمي، مع آخرين، إلى {شيعة الوهابية}، لأنه صديق آل الحريري. وابنه السيد حسن أُبعد من إيران عندما كان مراسلاً لجريدة «الحياة» السعودية، لمجرد أن موقعاً إلكترونياً مشبوهاً شهَّر به واتهمه بالعمالة لإسرائيل.

الكاتب، القلِق على مصير سورية، غادر. رحل مؤيد الثورة من دون أن يشهد سقوط بشار الأسد. اضطر إلى الغياب عن جهنم مفتوحة الأبواب على الجميع، من الموصل إلى عرسال، عن وطن كرسي رئاسته شاغراً، وهو قال في هذا الشأن في مقالة له نُشرت على موقع {جنوبية}: {بعض الرؤساء إثر نهاية ولايتهم الدستوريّة أو الممدَّد لها ينتقلون من الرئاسة إلى المنزل العائلي، وقد يكون بعضهم قادراً على مواصلة النشاط الوطني المُجدي ومن خلال تجربته حتى من منزله. بعضهم يفعل ذلك وبعضهم يهتم بشؤونه الخاصة وبعضهم يطلّ على الشّأن العام كل فترة وحين. في الدّول الراقية تعوّدنا أن ينتقل الرئيس من رئاسته إلى المواطنة كاستحقاق أعلى، أي من الرئاسة الوظيفيّة إلى الرئاسة الوطنيّة، وبرأينا أن كلّ مواطن متمسك بالمواطنة بوعي هو رئيس، ورئيسه المُنتخَب لا المعيّن هو خادمه وأجيره}.

الشاعر، منذ دخوله المستشفى في حالة حرجة، بدأت الكتابات عنه تتوالى. صحافياً وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بدا التضامن لافتاً. حتى جاء الرحيل، فتوقفت التمنيات: «شفاك الله، أتمّ عليك بالصحة والعافية، لا تغادرنا فنحن بحاجة إليك، نتمنى لك الشفاء العاجل}... ولكن تضاعف الحب والشكر، وفاضت الدموع رغم غياب عامل الصدمة.  

المعتدل، توفي بعدما ذاق، على عكس متدينين كثر، طعم القصيدة، شغف الإحساس، وربما طرب لموسيقى، وأصابته دهشة أمام اختراع تكنولوجي ما، أو صعود إلى المريخ من صنيع بشر.

 وجد كثر فيه {المُنقذَ}. ربما. ولكن لن ندخل في مجال «أيقنة» و{أسطرة» العلامة هاني فحص، فهو بممارساته الدينية والاجتماعية والسياسية كان رافضاً لهذا النهج في النظر إلى الأشخاص. هو رجل دين آمن بالتعددية ورأى فيها خيراً، وفي النقاش ثماراً، وفي الحوار علاجاً.

نبذة

السيد هاني فحص (1946 - 2014)، رجل دين مسلم شيعي دعا إلى حوار بين الأديان. انخرط في العمل الحزبي  والمدني. كان أديباً وكاتباً، ولد في بلدة جبشيت (النبطية) في جنوب لبنان عام 1946. تابع دراسته الثانوية ونال شهادة الدروس الثانوية (الموحدة السورية) كطالب حر. سافر إلى النجف في العراق عام 1963 حيث درس في حوزتها الدينية، ونال إجازة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه. عام 1972، عاد إلى لبنان واستقر في جبشيت، وكان قد تزوج في سن التاسعة عشر من نادية علو، وله منها: حسن، زيد، مصطفى، بادية وريا.

انتسب إلى حركة {فتح} أيام وجودها في لبنان، وهو عضو في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، وعضو في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. ترشح للانتخابات الفرعية عام 1974 متحالفاً مع كمال جنبلاط، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك. أشرف على مجلة {النجف} لمدة عام أيام إقامته فيها، وعند عودته منها مارس عمله الديني إماماً لبلدة جبشيت من 1972 وحتى 1975. شارك في تأسيس وتفعيل منتدى أدباء جبل عامل مع عدد من الأدباء والشعراء الجنوبيين، وفي قيادة انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية عام 1972.

بعد ثلاث سنوات أمضاها في إيران (1985-1982) حيث عمل مستشاراً في مكتب إعلام الحوزة في قم، ومشرفا على مجلة {الفجر}، عاد إلى لبنان وقد تخلى بعد التجربة عن أفكاره القومية. في العام 1992، لم يحالفه الحظ في الانتخابات النيابية، تفرغ للحوار والكتابة والعمل الفكري، فأسس مع سمير فرنجية {المؤتمر الدائم للحوار اللبناني}. وهو أحد الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وأحد المؤسسين لـ{اللقاء اللبناني للحوار}، عضو في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، عضو في الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين (استقال منه بعد المؤتمر الأول)، عضو في أكاديمية أهل البيت وفي منتدى الوسطية في عمان في الأردن، وفي مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية.

مؤلفاته

عُرف السيد هاني فحص بمؤلفاته الغنية، الداعية في معظمها إلى الحوار والتلاقي، وهو لم يتردد في قبول دعوة إلى احتفال بصدور كتاب، لأنه آمن بالكلمة ووقعها. أبرز كتبه: {ماضٍ لا يمضي، ذكريات ومكونات عراقية، الإمامان الصدر وشمس الدين ذاكرة لغدنا، خطاب القلب، تفاصيل القلب، أوراق من دفتر الولد العاملي، مشروعات أسئلة، في الوحدة والتجزئة، ملاحظات في المنهج، المسرح، كتابات، الحوار في فضاء التوحيد والوحدة، الشيعة والدولة في لبنان، الهوية الثقافية}.

كتب غير مطبوعة:

{مرايا، ذاكرة الأمكنة، المعرفة والاختلاف، لبنانيات سياسية، في الوحدة، مقاربات نقدية، الشيعة في لبنان، دروس من الحوار}.

 بين عقل البطريرك بولس مسعد وقلب الفلاح طانيوس شاهين

كنت أسير على أمل بالخير ووجل من الشر في مقدم تظاهرة مزارعي التبغ عندما انتبهت الى أني، ومن أجل أن أكون متقدماً على نفسي، عليّ أن أتأخر عن الصف الأول، عن الصورة، لأكون في الصورة (...)

ولاح لي أبي، بظهره الحاني لشدة ما يعاني، كان قد وعدني ذات يوم بأنه سيسجلني في ثانوية المدينة الجديدة، إذا كانت تسعيرة الريجي لمحصول تبغه منصفة. وللمرة العشرين لم تكن كذلك، دمعت عينه وواعدني على الموسم التالي. ولكني لم أنتظر. نصحني مزارع أميّ وحصيف، أن أسافر الى حوزة النجف. ذهبت وعدت إماماً لقريتي. ولكن أمي وأختي، كانتا على موعد على مدى ليالي الصيف، لتؤما شتلات التبغ في البراري في صلاة طويلة، من منتصف الليل إلى حمّارة الشمس. وأنا على طرّاحتي اقرأ القرآن وشعراً متذمراً من تعبي جراء إمامتي اليومية للمصلين في الجامع الظليل، لدقائق. وأعود إلى نوم القيلولة بعد الظهر.

كل منا، وإن لم يقرأ كلام ماركس عن الخيانة الطبقية، يعرفها ويخافها ويقع فيها. وقد يتوب. نحن أيضاً نقتل الوطن بالحب وبالكره، خيانة بالحب وخيانة بالبغض، نحب الوطن ونكره المواطن أو نكره الوطن (...). فنكره المواطن والمواطنة (...) علّقت صورة غيفارا في منزلي المكون من غرفة واحدة كانت واسعة سعة قلبي وقتها (يعني قد الدنيا). طبعاً كنت وقتها طالباً في الحوزة الدينية في النجف، وابتسم أصدقائي وأساتذتي بتساؤل: فقلت لهم أنا متأثر بنهج البلاغة ونهج علي. لذلك أحب غيفارا ولا أحب كتاب {المادية التاريخية والمادية الجدلية} الذي نحله الشيوعي المستنكف مبكراً (قدري قلعه جي) للأمين العام خالد بكداش (...) وأحببت الأب كاميليو توريس، الذي ظلمته كنيسته والشيوعيون والمستبد، وبعد عقود أحببت بولس مسعد البطريرك، الذي واظب على مرصده في أعالي الجبل وتد لبنان، يرى الجميع ويرونه، فيسر به قوم ويتبرم منه آخرون، لأن الاعتدال في عرف المتطرفين، ثواراً و(روحانيين) وإقطاعيين، تطرف، من هنا كانت معاناته مما عاين، ولكنه عاند، وقرر أن يبتدع أو يبدع حلولاً وسطية (...)أنصح باستعادته وتعميم أطروحته كأمثولة. تصلح ليومنا وغدنا مع مراعاة المتغير.

وأتساءل: هل تسمح لي بكركي بكلام شركة من موقع لبناني معني فأقول: إن بكركي لا تشكو من نقص في الهم والاهتمام والحركة والفعل، وإن كان البعض يرى أنها تشكو من فائض حيوية، ينبغي توفير كثير منها، والتركيز على ضرورة إنجاز التفاهم الماروني على الرئاسة، بالتنازل الشجاع من أجل انتخاب رئيس لا يهزم إلا من يريد أن ينهزم (...) وإلا فإن شهوات الرئاسة المنفلتة إلى حد العمى وتعطيل البلد، ستعمل على تحويل بكركي مفتاحاً انتخابياً في الحي اللبناني، لا حارة الموارنة وحدها، وبكركي التي يعلو رأسها جسدها بالانتخاب الديموقراطي بنسبة قد تتراجع من دون أن تتلاشى، تعرف كيف تدير التفاهم الديموقراطي على الأسماء والمسميات (...) أمثولة لبنان في عامية انطلياس، تحتاج الى إعادة قراءة، الى نقد يسبرها. إلى إعادة كتابة بريشة عتيقة وحبر جديد، أسطراً مستقيمة وحروفاً متعرجة. حتى لا يكون الدغري السهل على الكسالى، سبباً في تفجير الألغام. ما قرأته عن انطلياس والأصدقاء الأعزاء والأشقاء والألداء للبنان وحكام القائمقاميتين وحكامهم وللفلاحين وظالميهم معاً، وعن الأسياد العفاريت الشقر مختلفي اللكنات والجنسيات والرغبات، يقول إن هناك سننا تاريخية تشبه القوانين التكوينية، تتكرر إذا تكررت شروطها. ومن هنا، وبعدما شوهت حروبنا مواجع ومطالب الكادحين، الذين يصلّون الجمعة والأحد تحت القبة الزرقاء إياها، نحن مضطرون أن نبدأ من أنطلياس، من مكان وزمان وإشكالية وتوجه مشابه من دون داعٍ للنسخ أو الاستنساخ حتى لا تكون النتائج متماثلة، فلا الإقطاع القديم والجديد يربح حراماً أو حلالاً ولا الفقراء يستريحون من تراكم الفروق بين العرق والمَرَق.

عندما لاح لي والدي ومعه آلاف يشبهونه خُلقاً وخَلقاً، دماً وعرقاً، تبغاً وقمحاً، في التظاهرة، ابتسم لي صديقي المعلم الذي يزرع تبغاً أيضاً ويغني عتابا وميجانا ليطرد النعاس في ليالي القطاف، وأشار الى أبي وتساءل: ألا يشبه والد طانيوس شاهين (...) كأنه يريد أن يقول إني أشبه طانيوس شاهين، ولكن كيف؟ هو مسيحي وأنا مسلم! هو شيخ الفلاحين وأنا شيخ فلاح (...) اقرأوا شيئاً من نهج البلاغة على المذبح. لا من أجل عيوني، من أجل عيون فلاحي طانيوس شاهين، ومزارعي ريف إدلب ودرعا وسهل نينوى وقراقوش، والتلميذات أسيرات بوكو حرام والأب باولو والمطران ابرهيم واليازجي ومحمد الدرة ورضيع الحسين المقتول بالسهم في نحره في لحظة ظمأ. والطفل في المغارة. وأمه مريم.

أخشى أن يكون الذين يحتشدون في أماكن العبادة هذه الأيام يقتربون من الكفر والكفر المسلكي أسهل وأقسى من الكفر العقدي، وقد يكون له ألق إثبات، بينما يفسر إثبات الكفر العقدي أكثر الأحيان، إلا لدى أرباب الجهل والعمى وعشق الجريرة. ونحن ننتظر أذان المغرب لنفطر على الماء محلّى بعسل النحل السوري من يبرود. وابن يبرود يفطر عندما يجد كسرة خبز يابسة أو عطنة ويشكر الله على النعمة (...)

السيد هاني فحص

جريدة {النهار» اللبنانية

30 أغسطس 2014

back to top