الصمت يعزّز صحّتك

نشر في 30-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 30-08-2014 | 00:01
في إحدى الليالي الباردة من مارس 2010، تجمّع مئة خبير في التسويق داخل مطعم «سي هورس» في هلسنكي، وكانوا يريدون، بكل بساطة، أن يجعلوا تلك المنطقة النائية والمتوسطة الحجم وجهة سياحية شهيرة عالمياً. لكن لطالما كانت فنلندا معروفة بهدوئها، ومنذ عام 2008، بدأ «وفد التسويق المحلي» يبحث عن علامة تجارية وطنية يمكن أن تُحدِث بعض الضجة.

حار الخبراء بشأن مختلف نقاط القوة في وطنهم. كان ذلك البلد يشمل أساتذة استثنائيين ووفرة في أصناف التوت البري والفطر، وعاصمة ثقافية حيوية. لكنّ هذه المزايا لم توفر للبلد هوية وطنية جاذبة. فاعتبر أحدهم أنّ الهدوء قد لا يكون عاملاً سيئاً. هذا ما دفعهم إلى التفكير.

بعد بضعة أشهر، أصدر الوفد {التقرير التسويقي الوطني} الذي سلّط الضوء على مواضيع يمكن تسويقها، بما في ذلك نظام التعليم الفنلندي المعروف بجودته ومدرسة التصميم الوظيفي. لكن برز موضوع أساسي جديد: الصمت. شرح التقرير أن المجتمع المعاصر يكون في أغلب الأحيان صاخباً ومشحوناً بالانشغالات على نحو لا يُحتَمل. ذكر التقرير: {الصمت مورد مهم. يمكن تسويقه مثل المياه النظيفة أو الفطر البري. في المستقبل، سيصبح الناس مستعدين لدفع المال مقابل تجربة الصمت}.

بدأ الناس يفعلون ذلك أصلاً. في ظل العالم الصاخب، سرعان ما يصبح الصمت منتجاً رائجاً. يمكن جمع مئات الدولارات من بيع سماعات كاتمة للصوت بالتجزئة، أو يمكن أن تبلغ كلفة حصص التأمل الصامت على مرّ الأسبوع آلاف الدولارات. اعتبرت فنلندا أنها تستطيع حرفياً تحقيق شيء من لا شيء.

التزموا الصمت

في عام 2011، أطلق {مجلس السياحة الفنلندي} سلسلة من الصور لشخصيات وحيدة في البرية مع عبارة {التزموا الصمت رجاءً!}. اقترح المستشار الدولي المتخصص بالتسويق الوطني، سيمون أنهولت، شعاراً فيه لعب على الكلام: {لا أقوال بل أفعال!}. وطرحت شركة الساعات الفنلندية {رونكو} شعارها الجديد: {ساعات يدوية الصنع من عمق الصمت الفنلندي}.

أوضحت إيفا كيفيرانتا التي تدير مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لموقع VisitFinland.com: {بدل أن نتذمر لأن المكان فارغ وهادئ ولا أحد يتحدث عن شيء هنا، قررنا أن ندعم هذا الوضع ونحوّله إلى أمر إيجابي}.

الصمت هو نقطة بداية غريبة لأي حملة تسويقية، إذ لا يمكن قياسه أو تسجيله أو تصديره؛ ولا يمكن أكله أو جمعه أو توزيعه. تتساءل الحملة الفنلندية عن الآثار الملموسة للصمت. بدأ المجال العلمي يسلط الضوء على هذا الموضوع. في السنوات الأخيرة، ركز الباحثون على قوة الصمت الغريبة لتهدئة أجسامنا ورفع صوت أفكارنا الداخلية وتعديل طريقة تواصلنا مع العالم. بدأت الأبحاث من نقطة متوقعة: الضجة.

تشتق كلمة {ضجة} من جذر لاتيني يعني الغثيان أو الألم. وفق المؤرخ هليل شوارتز، تقول إحدى الأساطير التي كانت شائعة في بلاد ما بين النهرين إن الآلهة كانت تثور غضباً من صخب البشر الأرضيين لدرجة أن تطلق حملة قتل جنونية.

أدى الانزعاج من الضجة إلى ظهور عدد من أشرس المدافعين عن الصمت في التاريخ، وهذا ما شرحه شوارتز في كتابه {إحداث ضجة: من بابل إلى الانفجار العظيم وغيرهما} (Noise: From Babel to Big Bang and Beyond). في عام 1859، كتبت الممرضة البريطانية والمُصلِحة الاجتماعية فلورانس نايتنغال: {تعكس الضجة غير الضرورية أشرس غياب للرعاية بالمرضى أو الأصحاء}. اعتبرت نايتنغال أن {كل ضجيج عشوائي أو مزاح سخيف قد يسبب القلق والانزعاج واضطراب النوم بالنسبة إلى المرضى في مرحلة التعافي}. حتى أنها اقتبست الكلام من محاضرة اعتبرت أن {الضجة المفاجئة} هي السبب في وفاة الأولاد المرضى.

ما يثير الدهشة أن البحث الحديث يدعم عدداً من أقوى ادعاءات نايتنغال. في منتصف القرن العشرين، اكتشف علماء الأوبئة الروابط القائمة بين ارتفاع ضغط الدم ومصادر الضجة المزمنة مثل الطرقات السريعة والمطارات. بدا وكأن الأبحاث اللاحقة تربط بين الضجة وارتفاع معدلات قلة النوم وأمراض القلب وطنين الأذن. (هذه العبارة من البحث هي التي أطلقت مفهوم «التلوث الضوضائي» خلال حقبة الستينات، وهو الاسم الذي يعتبر ضمناً أن الضجة الانتقالية لها طابع سام وطويل المفعول).

تفسر دراسات علم وظائف الأعضاء البشرية كيف تعطي هذه الظاهرة غير المرئية أثراً جسدياً بارزاً. تبث موجات الصوت الذبذبات في عظام الأذن التي تنقل الحركة إلى القوقعة الشبيهة بشكل الحلزون. تحوّل القوقعة الذبذبات المحسوسة إلى إشارات كهربائية يتلقاها الدماغ. يتفاعل الجسم بشكل فوري وقوي مع تلك الإشارات، حتى وسط النوم العميق. تشير الأبحاث العصبية الفيزيولوجية إلى أن الضجة تنشّط في البداية لوزة الدماغ وشبكات الخلايا العصبية الواقعة في الفص الصدغي للدماغ الذي يرتبط بتشكيل الذكريات والعواطف. يؤدي هذا النشاط إلى إطلاق فوري لهرمونات الضغط النفسي مثل الكورتيزول. غالباً ما يسجّل الأشخاص الذين يعيشون في جو صاخب باستمرار ارتفاعاً في مستوى هرمونات الضغط النفسي على نحو مزمن.

دراسة الصمت

يُعتبر بدء الصمت المفاجئ نوعاً من التغيير أيضاً وهذا ما فاجأ وير. قبل دراسته في عام 2010، كان العلماء يعرفون أن الدماغ يتفاعل في بداية فصول الصمت (تساعدنا هذه القدرة على التفاعل مع المخاطر مثلاً أو التمييز بين الكلمات في العبارات). لكن وسّع بحث وير تلك النتائج حين أثبت أن القشرة السمعية لديها شبكة منفصلة من الخلايا العصبية التي تبث الإشارات حين تبدأ فترة الصمت: {حين يتوقف الصوت فجأةً، يشبه هذا الحدث ما يحصل عند تشغيل الصوت}.

قد نظن، عموماً، أن الصمت مرادف لغياب الإنتاجية، لكنّ أدمغتنا مصمَّمة كي تتعرف عليه عند أخذ استراحة طويلة من الأصوات. لذا لا بد من التساؤل: ماذا سيحصل بعد تلك اللحظة، أي حين يستمر الصمت ويترسخ جمود نسبي في القشرة السمعية؟

الاختصاصية في البيولوجيا التجديدية إيمكه كيرست من جامعة ديوك واحدة من الباحثين الذين حللوا هذا السؤال. مثل برناردي، لم تكن كيرست تحاول دراسة الصمت على الإطلاق. في 2013، كانت تحلل آثار الأصوات في أدمغة الفئران الراشدة. خلال تجربتها، تعرّضت أربع مجموعات من الفئران لحوافز سمعية متنوعة: موسيقى، صيحات صغار الفئران، ضجة بيضاء، الصمت.  توقعت أن تؤدي صيحات صغار الفئران، باعتبارها شكلاً من التواصل، إلى تطور خلايا دماغية جديدة. وقد ظنت مثل برناردي أن الصمت طريقة تحكّم ولا يمكن أن ينتج أي أثر ملموس.

صحيح أن جميع الأصوات أعطت آثاراً عصبية قصيرة الأمد، لكنّ أياً منها لم يعطِ أثراً دائماً. تفاجأت كيرست حين اكتشفت أن ساعتين من الصمت يومياً تؤديان إلى تطور الخلايا في الحصين، أي المنطقة الدماغية المرتبطة بتشكيل الذكريات التي تشمل الحواس. كانت هذه النتيجة مربِكة جداً: أدى الغياب التام للإنتاجية إلى آثار أعمق من تلك التي خلّفتها أي حوافز أخرى خلال الاختبار.

هكذا حللت كيرست النتائج بطريقة منطقية: كانت تعلم أن {وفرة الحوافز في البيئة المحيطة}، مثل استعمال الألعاب أو مجموعة أخرى من الفئران، تشجّع على نشوء الخلايا العصبية لأنها تتحدى أدمغة الفئران. ربما كان انقطاع الصوت مفتَعلاً، لكنها ظنت أنه أدى إلى ارتفاع مستوى الحساسية أو اليقظة لدى الفئران. قد يكون تكوين الخلايا العصبية رداً مناسباً على الهدوء المريب.

لا يضمن نمو الخلايا الجديدة في الدماغ المنافع الصحية دوماً. لكن تقول كيرست إن الخلايا تتحول في هذه الحالة إلى خلايا عصبية فاعلة: {لاحظنا أن الصمت يساهم فعلاً في إنتاج خلايا جديدة تختلف عن غيرها داخل الخلايا العصبية وتترسخ في نظام الجسم}.

تشدد كيرست على أن النتائج التي توصلت إليها لا تزال أولية، لكنها تتساءل إذا كان هذا الأثر سيفيد في استعمالات غير متوقعة. تم ربط حالات مثل الخرف والاكتئاب بتراجع معدلات تكوين الخلايا العصبية في الحصين. إذا رُصد رابط بين الصمت وتكوين الخلايا عند البشر، قد يتمكن علماء الأعصاب من استعمال الصمت كعلاج.

رموز داخلية

من الواضح أن الصمت الخارجي قد يعطي منافع ملموسة، لكن بدأ العلماء يكتشفون عدم وجود {مظاهر الصمت} تحت الجمجمة بحسب قول روبرت زاتور، خبير في علم أعصاب الصوت: {في ظل غياب الصوت، غالباً ما يميل الدماغ إلى إنتاج رموز داخلية للأصوات}.

تخيّل مثلاً أنك تستمع إلى مقطوعة {صوت الصمت} للثنائي سيمون وغارفونكل فينقطع بث الإذاعة فجأةً. وفق علماء الأعصاب، إذا كنت تعرف الأغنية جيداً، ستبقى القشرة السمعية في دماغك ناشطة وكأن الموسيقى لا تزال مستمرة. يقول ديفيد كرامر الذي أجرى هذا النوع من التجارب في مختبره في كلية دارتماوث: {ما {تسمعه} لا ينتجه العالم الخارجي. بل إنك تستعيد ذكرى معينة}. لا تكون الأصوات مسؤولة دوماً عن الأحاسيس، بل أحاسيسنا الذاتية تكون أحياناً مسؤولة عن وهم الصوت.

إنه مؤشر على قدرة الدماغ على التخيّل: في مساحة الصمت الحسية الفارغة، يمكن أن يشغّل العقل سيمفونياته الخاصة. لكنه مؤشر أيضاً على أن الدماغ يبقى ناشطاً وحيوياً حتى في ظل غياب أي حوافز حسية.

تحرّر

يبدو أن التحرر من الضجة وإتمام المهام المستهدَفة يعززان الهدوء ويسمحان لمساحة العمل الواعي بإتمام وظيفتها والانغماس في العالم واكتشاف الموقع الذي يناسبنا. إنها قوة الصمت.

تلك القوة مألوفة جداً بالنسبة إلى نورا فيكمان، خبيرة في الموسيقى العرقية ومستشارة حول الصمت في فنلندا. تعيش في الجزء الشرقي من فنلندا وتحيط بها بحيرات وغابات هادئة. في مكان بعيد وهادئ، تقول فيكمان إنها اكتشفت الأفكار والمشاعر التي لا تسمعها في حياتها اليومية الصاخبة: {إذا أردت أن تتعرف على ذاتك، فيجب أن تختلي بنفسك وتتناقش معها وتتمكّن من التحاور مع الذات}.

تبين أن شعار {التزموا الصمت رجاءً!} أصبح الأكثر رواجاً بين حملات فنلندا التسويقية، وباتت هذه الحملة من أشهر الصفحات على موقع VisitFinland.com. ربما أصبح الصمت منتجاً رائجاً لأننا نعامله في أغلب الأحيان كسلعة ملموسة يسهل أن تنكسر أحياناً مثل الخزف أو الكريستال، أو كسلعة حساسة وقيّمة. تتذكر فيكمان ما حدث معها حين كانت تختبر تجربة نادرة من الصمت شبه التام. كانت تقف في البرية الفنلندية وتركز سمعها كي تصغي إلى أضعف أصوات الحيوانات أو الرياح: {نحن نتغير بطريقة غريبة. نملك السلطة الكاملة كي نكسر الصمت عبر إحداث أصغر الأصوات. لكننا لا نفعل ذلك بل نحاول الحفاظ على أقصى درجات الهدوء!}.

ضجة وموسيقى

في البداية، كان الصمت يظهر في الأبحاث العلمية كأسلوب تحكّم أو مجموعة مرجعية، وقد قارن العلماء مفاعيله بآثار الضجة أو الموسيقى. قام الباحثون بدراسة هذا الموضوع عن طريق الصدفة، كما فعل الطبيب لوتشيانو برناردي في دراسة عن الآثار الفيزيولوجية للموسيقى في عام 2006: {لم نفكر بأثر الصمت. ولم نهدف إلى دراسة هذا الموضوع تحديداً}.

لكنه واجه مفاجأة كبرى. رصد برناردي المقاييس الفيزيولوجية لدى 24 مشاركاً في الاختبار أثناء الإصغاء إلى ستة مقاطع موسيقية. فلاحظ إمكانية قراءة آثار الموسيقى مباشرةً في مجرى الدم، من خلال التغيرات في ضغط الدم وثاني أكسيد الكربون والدورة الدموية في الدماغ (برناردي وابنه من هواة الموسيقى وقد أرادا استكشاف موضوع يهمّهما معاً). يوضح برناردي: {خلال الاستماع إلى أنواع الموسيقى تقريباً، رُصد تغير فيزيولوجي يشبه ما يحصل عند تحفيز الجسم}.

كان ذلك الأثر منطقياً بما أن الاستماع الفاعل يتطلب مستوى من اليقظة والانتباه. لكن سُجلت النتيجة الأبرز خلال الفترة الفاصلة بين المقاطع الموسيقية. اكتشف برناردي وزملاؤه أن مساحات الصمت التي تبدأ عشوائياً تعطي أثراً جذرياً، لكن في الاتجاه المعاكس. تبين أن استراحة صامتة لمدة دقيقتين تضمن الاسترخاء أكثر مما يحصل عند الاستماع إلى الموسيقى {المهدّئة} أو عند تخصيص فترة أطول من الصمت قبل بدء التجربة.

بعبارة أخرى، تبين أن الاستراحة الصامتة التي اعتبرها برناردي غير مهمة هي الجزء الأهم من الدراسة. بدا وكأن الصمت يعطي أكبر مفعول ممكن بفعل التناقضات، ربما لأنه يسمح للمشاركين في الاختبار بتخفيف مستوى الانتباه الحذر. يوضح برناردي: {ربما يساهم التحفيز في تركيز العقل في اتجاه واحد، ما يعني أننا نشعر باسترخاء أعمق حين لا نواجه أي حوافز قوية}.

في عام 2006، أصبحت دراسة برناردي حول الآثار الفيزيولوجية للصمت البحث الأكثر تحميلاً في مجلة {القلب}. سرعان ما وثقت الأبحاث العصبية إحدى النتائج الأساسية، أي أن الصمت يتعزز بفعل التناقضات. يدرس مايكل وير عملية المعالجة الحسية في الدماغ في جامعة أوريغون، وقد راقب في 2010 أدمغة الفئران خلال فصول قصيرة من الصوت. أُضيئت شبكة من الخلايا العصبية في القشرة السمعية عند تشغيل الصوت. لكن حين استمرت الأصوات بوتيرة متتتابعة نسبياً، توقفت الخلايا العصبية عن التفاعل. ما تفعله الخلايا العصبية فعلياً هو بث إشارة عند حدوث أي تغيير.

آثار جسدية

مثلما يتراكم صوت غسيل مئات السيارات الفردية وينشئ جداراً مزعجاً من الضجة في الخلفية، تتراكم الآثار الجسدية للضجة بالطريقة نفسها. في عام 2011، حاولت منظمة الصحة العالمية قياس أعبائها الصحية في أوروبا. فاستنتجت أن 340 مليون مقيم في أوروبا الغربية (أي ما يوازي عدد سكان الولايات المتحدة تقريباً) يخسرون سنوياً مليون سنة من الحياة الصحية بسبب الضجة. حتى أنها اعتبرت أن ثلاثة  آلاف حالة وفاة بسبب أمراض القلب تنجم في الأساس عن الضجة المفرطة.

بالتالي، نحن نحب الصمت بسبب الآثار التي لا ينتجها، بمعنى أنه لا يوقظنا أو يزعجنا أو يقتلنا، لكن ماذا يفعل تحديداً؟ حين هاجمت فلورانس نايتنغال الضجة باعتبارها {غياباً شرساً للرعاية}، أصرّت أيضاً على أنّ العكس صحيح: الهدوء هو جزء من الرعاية الفاعلة، وهو عامل أساسي بالنسبة إلى المرضى بقدر الأدوية أو ظروف النظافة. إنه مفهوم غريب لكن بدأ الباحثون يعتبرونه صحيحاً.

نشاط الدماغ

في 1997، عمد فريق من علماء الأعصاب في جامعة واشنطن إلى جمع البيانات من مسح أدمغة أفراد شاركوا في الاختبار خلال أداء مهام عقلية متنوعة مثل ألعاب الحساب والكلمات. لاحظ أحد العلماء، وهو غوردون شولمان، أن الإدراك القوي الذي يزيد النشاط في بعض أجزاء الدماغ، كما هو متوقع، يسبب أيضاً تراجعاً في نشاط أجزاء أخرى من الدماغ. على ما يبدو، ثمة نوع من النشاط الدماغي الضمني ولكنه أصبح أكثر وضوحاً  عندما كان المشاركون في غرفة هادئة من دون أن يفعلوا شيئاً.

تولى العالِم ماركوس رايكل رئاسة الفريق، وكان يعلم بوجود أسباب وجيهة للتدقيق بتلك البيانات. طوال عقود، كان العلماء يعرفون أن النشاط في {خلفية الدماغ} يستهلك الحصة الكبرى من طاقته. أدت المهام الصعبة مثل التعرف على الأنماط أو عمليات الحساب إلى زيادة استهلاك طاقة الدماغ بنسبة ضئيلة. أشار ذلك إلى أن تجاهل النشاط الضمني يعني أن علماء الأعصاب ربما يغفلون عن عامل حاسم. أوضح رايكل: {عند القيام بذلك، يصبح تحليل معظم نشاطات الدماغ شائباً}.

في 2001، نشر رايكل وزملاؤه دراسة مهمة تحدد {الوضع الافتراضي} لوظيفة الدماغ (يقع في قشرة الفص الجبهي الذي ينشط خلال النشاطات المعرفية)، ما يوحي بأن الدماغ في وقت {الراحة} يبقى ناشطاً ويجمع المعلومات ويقيّمها. يبدو أن الانتباه المركّز يُضعِف هذا النشاط التحليلي. اعتبر رايكل وزملاؤه أن الوضع الافتراضي {له أهمية تطورية واضحة}. يُفترض مثلاً أن يتم رصد العوامل العدائية تلقائياً من دون الحاجة إلى نية أو طاقة إضافية.

أثبتت الأبحاث اللاحقة أن الوضع الافتراضي يرتبط بعملية التأمل الذاتي أيضاً. في عام 2013، كتب جوزيف موران وزملاؤه على موقع {حدود علم الأعصاب البشري} أن شبكة الوضع الافتراضي في الدماغ {يمكن مراقبتها عن قرب خلال عملية التفكير النفسي بشأن الطباع والمزايا الذاتية، وليس خلال الاعتراف الذاتي أو التفكير بمفهوم ذاتي أو بتقدير النفس مثلاً. كتب موران وزملاؤه أن {أدمغتنا تستوعب المعلومات الخارجية والداخلية ضمن {مساحة العمل الواعي} خلال الوقت الذي يستريح فيه الدماغ بهدوء}.

back to top