سيادة الدولة... والحكم الذاتي لمشروع الحرير

نشر في 02-10-2019
آخر تحديث 02-10-2019 | 00:17
 محمد المقاطع نشُرِ يوم الأربعاء25/ 9 / 2019 مشروع قانون مقدم من الحكومة لما سمي بـ"المنطقة الاقتصادية الشمالية"، وطلبت له صفة الاستعجال، وهو قانون أشبه ما يكون بالإعلان الدستوري الذي يستقطع إقليماً كاملاً من الدولة ويعلن انفصاله عنها وفقاً لمفهوم "منح الاستقلال والحكم الذاتي للإقليم"، وهو ما ترتب عليه إكسابه صفة كيان سياسي بمنأى عن سيادة الدولة وسريان دستورها وقوانينها، فضلاً عن إنشاء سلطات تنفيذية وتشريعية، بل قضائية كذلك، مما يعد تعارضاً صارخاً مع الدستور وجميع أسس الدولة.

ولخطورة هذا القانون وما بني عليه من توجهات، فإن كل المعنيين من المختصين والسياسيين وجمعيات النفع العام عليهم واجب نقاش المشروع وبيان طبيعته وأبعاده ومخاطره، حتى لا تنشأ لدينا دولة داخل الدولة استجابة لمبررات غير منطقية منطلقاتها التحرر من منظومة الدولة القانونية والسياسية والمالية والرقابية، لنفاجأ بمولود من خارج رحم الدستور.

استهل المشروع مادته الأولى بإنشاء "المنطقة الاقتصادية الشمالية" مقرراً لها مساحة شاسعة، مردفاً ذلك بجواز إضافة مساحات أخرى إليها أو أي ميناء بحري أو جوي أو بري، وهو توجه غير مسبوق، إذ إنه في حقيقة الأمر لم ينشئ مرفقاً ولا نشاطاً ولا منطقة جمركية خاصة، مما يسمح به الدستور وخصوصاً المادة 133 منه، وإنما أعلن إنشاء كيان مستقل، أفصحت عنه المادة الثالثة، رغم تأكيدها سيادة الدولة والحقيقة عكس ذلك، إذ أهدرت السيادة بهذه المادة قبل غيرها، فمنحت المنطقة حق إبرام المعاهدات الدولية، والتي هي وفق المادة 70 من الدستور، قاصرة على مجلس الأمة والحكومة. وعقب ذلك سطرت المادة الرابعة حججاً واهية لتبرير هدف المنطقة الاقتصادية، وهو الهدف العام للدولة كما في المادتين 20 و21 من الدستور، وسرعان ما نطق المشروع بالردة الدستورية بمادته الخامسة، فأنشأ سلطة تشريعية من خلال "اللائحة التنفيذية" وحدد من يمكنه الدخول إلى المنطقة (م5) وأنشأ قوات أمن مستقلة (م6) وسلطة تخصيص الأراضي (م7) بدل المجلس البلدي ومجلس الوزراء، وتوالت المواد من 8 إلى 18 لإنشاء مؤسسة هي فعلياً سلطة تنفيذية كاملة تُمارس اختصاصات قاصرة بالدستور على مجلس الوزراء، وأوجدت سلطة تنفيذية جديدة تحت مسمى "مؤسسة" للتغطية والتسويق.

وقد تتالت نصوص هذا الإعلان الدستوري لتقرر استثناءات غير مسبوقة لهذا الإقليم من جميع أنظمة الدولة، وألغت رقابة ديوان المحاسبة المسبقة، وحولت رقابته اللاحقة إلى مدقق حسابات فقط، وشتان بين الأمرين (م19)، ومنحت اللائحة صفة التشريع المتفرد بشؤونها (م21) افتئاتاً على مجلس الأمة، بل أنشأت جريدة رسمية لنشر "تشريعاتها".

واغتصبت المواد "23 - 28 " دور السلطة التنفيذية ليباشره -خروجاً على أحكام الدستور - مجلس الأمناء ومجلس الإدارة. وتكفلت المواد 31 ، 32 ، 34 ، 35 ، 36 ، 37، 38 ، 39 ، 40 ، 41 بإعلان وتفصيل الاستقلال والتفرد لهذا الإقليم (المنطقة)، مع منع سريان أنظمة الدولة أو قرارات مجلس الوزراء أو تشريعات مجلس الأمة أو حتى أحكام القضاء عليها ومشروعاتها، إقصاءً لسلطات الدولة، وهو هدم لسيادة الدولة ولبنائها الدستوري.

وجاءت المواد "42 -48 " بالردة القضائية الكاملة من خلال إعلان إنشاء نظام قضائي مستقل لهذه الدويلة المسماة "المنطقة الشمالية"، ومنح ما يصدر عنه حجية الأمر المقضي النافذ، وكل سلطة الدولة عليه التعامل معه كما لو كان حكماً صادراً من قضاء أجنبي، أي فقط التصديق على الحكم.

وللموضوع جولات أخرى سنتناولها بكل مناسبة وكل محفل حتى يتم وأد هذا الجنين غير الشرعي قبل ميلاده وللحيلولة دون الفوضى الدستورية والتشريعية والسياسية والمالية والقضائية التي ستتولد عنه، وليدرك من ساهموا فيه من القانونيين أنهم تجردوا من كل قيم المهنية واحترام التخصص حينما قبلوا أن يكونوا مجرد "ترزية" يفصلون ما يهدر أبسط قواعد الدستور والقانون والمشروعية.

back to top