دفع الهجنة في ارتضاخ اللكنة للرصافي... جسر بين لغتين

نشر في 09-10-2011 | 00:01
آخر تحديث 09-10-2011 | 00:01
No Image Caption
صدر أخيراً عن شركة «قدمس للنشر والتوزيع» كتاب «دفع الهجنة في ارتضاخ اللكنة» للشاعر العراقي معروف الرصافي، وتحرير موسى يلدز.

يفيد يلدز بأن أول اتصال بين العرب المسلمين والأتراك يرجع إلى ما بعد القضاء على الدولة الساسانية في معركتي القادسية ونهاوند عام 641، ليصبحوا بعد فترة وجيزة إلى جانب العرب المسلمين، يحملون راية الإسلام في وسط آسيا ويدعون بني جلدتهم إلى الدين الحنيف ويؤسّسون دولاً منها الغزنوية والسلجوقية والخوارزمية والمملوكية والدولة العثمانية.

كان انتشار الإسلام بين الأتراك فاتحة عهد جديد في حياتهم الثقافية والاجتماعية، وقد تأثروا تأثراً كبيراً بالثقافة العربية الإسلامية، حتى أخذوا يبتعدون شيئاً فشيئاً عن ثقافتهم القومية. وكان لتبنيهم الحروف العربية في كتابة اللغة التركية، أبرز الأثر في انتقال ألفاظ عربية وفارسية كثيرة، خصوصاً تلك المتعلّقة بالعلوم الإسلامية إلى اللغة التركية.

يضيف يلدز بأن أول من أشار إلى التأثير المتبادل بين اللغتين التركية والعربية، هو الشاعر العراقي معروف الرصافي (1875-1945)، وقد عاش في اسطنبول سنوات طويلة وأصبح نائباً في مجلس المبعوثين العثماني. بالتالي، كان يجيد اللغة التركية إجادة تامة.

لم يكن الرصافي يعارض تعريب الكلمات الأجنبية، بل كان يدعو إليه، لأنه كان يعترض أشد الاعتراض على استعمال الكتّاب العرب الألفاظ العربية التي استخدمها العثمانيون، لا سيما تلك التي لا تتماشى مع القواعد العربية، فألّف هذا الكتاب، محاولاً فيه تنبيه أبناء قومه إلى ذلك.

يقول الرصافي في مقدّمة الكتاب: «أما بعد، فهذه عدة كلمات وألفاظ عربية جمعتها من اللغة العثمانية، يلزم كل من عنى بلغته من أبناء العرب أن ينظر فيها ويتدبرها، لتكون وافية من العُجمة وحامية من اللكنة. فإن هذه الألفاظ منها ما استعمله اللسان العثماني في غير معناه العربي، ومنها ما لم يكن عربياً وهم يحسبونه عربياً، وقد أخذها العرب منهم فاستعملوها استعمالهم وهم لا يشعرون، وذلك لكثرة الاختلاط بين الفريقين، فرأيت أن أضع هذه الرسالة لأنبّه فيها على تلك الألفاظ بذكر معانيها العربية ومعانيها العثمانية وبيان ما هو عربي منها وما هو غير عربي وسميتها (دفع الهجنة في ارتضاخ اللكنة) فعسى أن تكون لبني قومي نافعة ولتلك الهجنة دافعة».

كلام العرب

جمع الرصافي في كتابه هذا 398 كلمة عربية مستعملة في اللغة التركية وقسّمها إلى خمسة أقسام، هي: ما لم يغيروا لفظه ولا معناه، ما غيروا لفظه ومعناه، ما غيروا لفظه دون معناه، ما غيروا معناه دون لفظه، وأخيراً ما وضعوه من عند أنفسهم قياساً على القواعد العربية وليس هو من كلام العرب. والقسمان الرابع والخامس، هما غرضا الرصافي حينما وضع كتابه، إذ بهما يقع الالتباس ومنهما تنشأ اللكنة، لأنها ألفاظ عربية المبنى تركية المعنى.

في تمهيد كتابه يقول الرصافي: «ولعمري إن الترك لو تيسّر لهم تجريد لغتهم عما سوى التركية، لخدموا اللغة العربية بذلك خدمة جليلة يجب لهم بها الشكر على العرب، فإنا نرى العرب اليوم حتى في كتّابهم يرتضخون بالهجنة في كلامهم وفي كتاباتهم، ولم يأتهم ذلك إلا من استعمال الترك كثيراً من الكلمات العربية في اللسان العثماني، استعمالاً غير منطبق على اللهجة العربية، ويستعملون كثيراً منها أيضاً بغير معانيها في لسان العرب. ولا شك أن الترك لكثرة اختلاطهم بالعرب قد أثروا في لسانهم تأثيراً عمت به العجمة فشملت منهم الخاصة والعامة. وليس ذلك بعجيب، فإن العرب يسمعون في كل يوم كلامهم ويقرأون كتبهم وجرائدهم فيأخذون الكلمات العربية من لسانهم ويستعملونها من حيث لا يشعرون في المعاني التي يعنيها الترك منهم».

يرسم الرصافي منهج كتابه بقوله: «ولما كان ما وضعوه من عند أنفسهم أكثر ضرراً على اللغة العربية، لأنه من قبيل الألفاظ المصنوعة رأينا أن نقدّمه في الذكر، ثم نأتي بعده بما غيروا معناه دون لفظه لكثرة ضرره أيضاً ولشدة لزوم معرفته. ثم نأتي بعد هذين بالقسمين الآخرين».

يختم الرصافي كتابه بقوله: «هذا ما تيسّر لنا جمعه من الألفاظ العربية المستعملة في اللسان العثماني، وليس ما فاتنا من تلك الألفاظ بأقل مما جمعناه منها في هذه الصحيفة، إذ نحن لم يتسن لنا استقراء مفردات اللغة العثمانية استقراءً تاماً وإنما دون قصدنا بجمع ما تيسر من الكلمات تنبيه الأفكار ودعوة أبناء العرب إلى التيقظ عند استعمالهم أمثال هذه الكلمات التي يعديهم بها كون المتكلمين بالتركية على مسمع منهم ومرأى، فهم يأخذونها عنهم ويستعملونها استعمالهم من حيث لا يشعرون. وهناك أمر آخر أهم مما نحن فيه يجب التنبه له والتنبيه إليه، وهو الأسلوب والتركيب، فإنا اليوم نجد في كلام العرب جملاً مركبة من مفردات عربية على أسلوب تركي. وتجد كثيراً من هذه الجمل في الجرائد والمكتبات وفي الكلام المتداول بالألسنة. ومعلوم أن تركيب الكلام في التركية يأتي في الغالب على عكس تركيبه في العربية».

اللسان

يلفت الرصافي إلى أن اللسان العثماني غير التركي، مزيج حاصل من أربعة ألسن، لأننا نجد فيه الكلمات التركية والعربية والفرنسية والفارسية، وقد اكتسب اللسان العثماني بالأخذ من هذه اللغات الأربع، سعة أصبح بها لسان علم وفن كأحد الألسنة الغربية. وأصبحت معرفة اللسان العثماني معرفة تامة تتوقّف على الإلمام بطرف من هذه اللغات المذكورة. وبالجملة، فإن اللسان العثماني كالأمة العثمانية، الألفاظ فيه مختلفة العناصر إلا أنها قد ائتلفت وامتزجت امتزاج الماء بالصهباء بخلاف عناصر الأمة. ولكون اللسان العثماني مؤلفاً من أربع لغات، نجد عوام الترك خصوصاً في الأناضول، لا يفهمون تماماً ما تكتبه الجرائد وتنشره الصحف العثمانية. وهذه المسألة أهمّت الكثيرين من أدباء الترك وكتابهم، فأخذوا ينظرون فيها نظراً افترقوا فيه إلى فرق كثيرة يمكن إرجاعها إلى فرقتين أصليتين، إحداهما قائلة برفع العامة إلى أوج اللسان، والأخرى قائلة بخفض اللسان إلى حضيض العامة. وإيضاح ذلك أنهم عند النظر في اللسان العثماني، رأوه عالياً على العامة بحيث لا تنوشه يد أفهامهم المنحطة عنه. ورأوا هذا البعد الكائن بين فهم العامة واللسان العثماني هو أول أسباب تأخرهم في العلم عن الأمم الراقية، فلا بد إذن من التقريب بينهما.

يتابع الرصافي بأنهم اختلفوا في الطريق الموصل إلى تقريب أحدهما من الآخر، فقال فريق منهم إن الطريق الموصل إلى ذلك هو تعليم العامة، فيجب السعي إلى نشر العلم بتكثير المدارس وإصلاح طرق التعليم فمتى أخذت العامة قسطها من مبادئ العلوم صارت تفهم ما نكتبه لها في جرائدنا اليومية ورسائلنا العلمية. وقال آخرون ألا مرية من كون هذا الطريق موصلاً إلى المطلوب، لكن فيه من الوعورة ما يحوجنا في قطعه واجتيابه، إلى مال كثير يعوزنا وزمان طويل يضجرنا. فيجب مع السعي إلى نشر العلم وتعليم العامة، أن نتخذ لهم هذا الأمر المهم عجالة نتعلل بها تنوير عقول العامة وتدريبهم على ما يكون به التقدم والنجاح، ذلك بأن لا نكتب لهم ولا نكلمهم إلا كما يفهمون.

back to top