حمزة عبّود في ديوان الشّعر اللبنانيّ المعاصر يفتح باب الشعر العاميّ على مصراعيه

نشر في 29-07-2010 | 00:00
آخر تحديث 29-07-2010 | 00:00
الشّعر الذي يأتي بلغة الناس اليوميّة، لغة الحياة، ظاهرة موجودة في تاريخ الأمم كلّها ولا تحتاج إلى إثبات، وهو يلبّي حاجة خاصّة لدى صاحبه، وعامّة لدى الناس لأسباب وجدانيّة واجتماعيّة قبل أن تكون ثقافيّة... وعلى مستوى العرب، هذا الشّعر موجود منذ أزمنة طويلة، وهو اليوم يزدهر بشكل لافت، ولبنانيًّا يثبت حضوره المتألّق ولكنه يتعرّض للاضطهاد والنظرة الدونيّة من البعض الذي يتعصّب للعربيّة الفصحى تعصُّبًا أمّيًا ويدير ظهره لتجارب شعريّة فرضت نفسها بقوّة ولم تعد تحتاج إلى من يعترف بها.

يخوض الشاعر حمزة عبّود مجدداً غمار الشّعر اللبناني، ويطرق باب القصيدة العاميّة في جديده {ديوان الشعر اللبناني المعاصر}، مختارات من الشّعر العاميّ، ويختار ثلاثين علَمًا، منهم من هو زجّال، ومنهم من ينتسب الى القصيدة المحلية الجديدة، ومنهم من تمثّل قصيدتهم جسر العبور من الزجل الى الشّعر وهي تتصف ببعض الخصائص الزجليّة وتحمل ملامح شعريّة لم تكن تظهر سابقاً. وهؤلاء الأعلام هم بحسب التسلسل الأبجدي الذي اعتمده الكاتب: أسعد جوان، أسعد سابا، أسعد السبعلي، الياس لحود، أنطوان مالك طوق، أنيس روحانا، إيليّا أبو شديد، جرمانوس جرمانوس، جوزف أبي ضاهر، جوزيف حرب، جوزيف الهاشم (زغلول الدامور)، خليل حاوي، خليل روكز، الأخوان الرحباني، زين شعيب، سعيد عقل، طانيوس عبده، طلال حيدر، طليع حمدان، عبد الجليل وهبي، عصام العبدالله، علي الحاج القماطي، قزحيا ساسين، السيّد محمّد المصطفى، موسى زغيب، موريس عوّاد، ميشال طراد، هنري زغيب، ويونس الإبن.

جدير بالذكر أن عبّود لم يقم بمسح شامل للشعر العاميّ أعلامًا ونتاجًا، إنّما اختار ما يلبّي هدفه، وهو الإلمام: {بمختلف التجارب التي عرفتها حركة الشعر العاميّ}، منذ خمسينيات القرن الماضي، ما يعني أنّ بعض الشّعراء كان من الممكن عرض تجاربه الشعريّة، مثل: عبدالله غانم ومالك طوق وغيرهما، وبعض الشّعراء الذين اختارهم عبود يمكن تجاهل تجربته في الشّعر العاميّ، مثل: خليل حاوي، وغيره أيضًا، لأنّه لم يكن مؤثّراً ولافتاً في مسار تطوّر القصيدة بالمحكيّة.

مناخات

لا بدّ من التطرّق الى المقدّمة التي أتت بمثابة بوصلة ودليل لقارئ يتّجه صوب مناخات شعريّة مختلفة. وأصاب عبّود حين ميّز من بداية كلامه بين {الزَّجل} و{الشّعر بالمحكيّة}، مدرجًا التسميتين تحت تسمية {الشّعر العاميّ}. وحاول الحدّ من إظهار الاختلاف بين الزّجل وشعر المحكيّة باختيار النّصوص نظرًا إلى قيمتها الفنيّة و: {اختزال النّصوص المتشابهة التي تفرضها تقاليد السجالات والمباريات في الشّعر الزجليّ}، بينما المطلوب، وبإلحاح، إظهار الاختلاف استجابة للغاية التي يسعى إليها عبّود، فالزّجل فولكلور وتراث بالمعنى الدقيق والمحدّد للكلام، فيما قصيدة المحكيّة نوع أدبيّ آخر، صحيح أنّه مدين للزّجل بنشأته وتطوّره، غير أنّه أمسى اليوم لا يمتّ إلى الزجل بصلة. والشواهد النصيّة في الكتاب لا حصر لها لإثبات ذلك. وعلى سبيل المثال يقول الشاعر الزجليّ موسى زغيب: ...{ورح ضلّ مارد جبهتي بصنّين/ وعارَمْل شطّ البحر دعساتي ورح ضلّ سلّم خشبتي سكّين / تمنَع حدا يدعس عا درجاتي}. ويقول الشاعر أنطوان مالك طوق في قصيدة {بيّاع الشّوك}: {عالشّوك يلا عالشّوك... / عن جدّ؟! / من أيمتا صار الشّوك بينباع؟ / ... من يوم ما انباع الورد عالقدّ}.

نلاحظ، وباختصار شديد، أنّ النموذجين آتيان، من مكانين مختلفين جدًّا شعريًّا، فزغيب يلجأ إلى المباشرة بمنبريّة لا تخفى، وعلى سنّة الزجّالين يتباهى بالقويّ والخارق، إذ إنّ رأسه بموازاة رأس جبل صنّين وقدميه على شاطئ البحر، ويلتزم بالقافية والوزن بصرامة... فيما يكتب طوق وجعًا وجدانيًّا وجوديًّا برمزيّة فائقة الإيحاء والوضوح الذي هو بمنتهى الصناعة، وتبرز في قصيدته ظاهرة تكرار القافية بلا أيّ إحراج، الأمر الذي لا يجرؤ عليه زجّال...

رجع عبّود إلى تاريخ الزّجل، فرصد بداياته مع سليمان الأشلوحي (1270-1335م)، وجبرايل القلاعي اللحفدي (1440-1516م)، ولحظ اهتمام رجال الإكليروس المسيحيين بالزّجل من نهاية القرن الثالث عشر حتى بداية القرن التاسع عشر، كذلك لحظ نشوء أوّل جوقة زجليّة: {وفي العام 1927 أسّس شحرور الوادي (أسعد الخوري فغالي) أول جوقة زجليّة في لبنان}. وعرض واقع الصحافة الزجليّة ذاكرًا صحفاً ومجلات عدة اهتمّت بالزجل. ورأى عبّود أنّ الصحافة الزجليّة و{تأثير الشّعر الزجليّ في الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة}... و{عوامل موثّرة أخرى تتّصل بتطوّر الحركة الشعريّة} هيّأت المناخ لولادة قصيدة المحكية اللبنانيّة. وربط تطوّر الشّعر المحكي وازدهاره في لبنان بتجربة الشاعر الثقافيّة والوجدانيّة ورؤيته الفنيّة لا بظاهرات اجتماعيّة وتقاليد وقيم عامّة، وهذا الكلام المصيب والمعبّر الى حدّ بعيد يصلح، وبقوّة، للبناء عليه في تميّيز الزّجل من الشّعر بالمحكيّة.

ثوابت

لافتٌ عبّود في كلامه عن العاميّة والفصحى: {كما أنّ العاميّة والفصحى لا تحدّدان قيمة النص الشعريّة إلا بقدر ما يستعين الشاعر بهما لتحديد جوانب من التّجربة}... هذا الرأي بمنتهى الموضوعيّة والتجرّد، ويخدم تطوّر الشّعر في أيّ لغة كان، ويردّ على أصوليّي اللغة الذين يدينون الشّعر بلغته ويتباهون بعنصريّتهم اللغويّة على الصفحات الثقافيّة في الصحف وعلى شاشات التلفزة...

حاول عبّود في سياق كلامه عن الشعر المحكي والزّجل، تحديد ثوابت بنيويّة وخصائص هي للزّجل دون غيره ومنها: الافتتاحيّة، والحماسة والارتجال، والأداء المؤثّر،... والإيقاعات السهلة، وابتكار الصور الطريفة، والمبالغة، واستخدام الأمثال والبراهين... ووفِّق في توصيفه قصيدة المحكيّة: {...فيما تتشكّل القصيدة في الشّعر المحكي في بنية خاصّة أكثر تعقيدًا وتتحدّد ملامحها في فضاء التجربة الشعريّة}. ونستنتج من كلام عبّود هذا أنّ الزّجل فنّ شفهي بينما بالمحكيّة فنّ يخضع للصناعة، ولم تفت عبّود الإشارة: {إلى أنّ كبار شعراء الزّجل أفردوا مساحة في مؤلّفاتهم وأعمالهم لقصائد ومجموعات خاصّة لا تنتمي إلى تقاليد الشعر (والمسرح) الزجلي، بقدر ما تشكّك في مكوّناتها وأبعادها تجربة نوعيّة مستقلّة}. وقد تكون هذه القصائد، لا سيّما لدى الشعراء: الزجليّ خليل روكز، وأسعد السبعلي وأسعد سابا، جنينًا أوّليًّا لقصيدة المحكيّة التي ستفتح أشرعتها وتمضي إلى غايتها الخاصّة لتستقلّ عن الزجل بشكل نهائيّ كما مع الشّعراء جوزف حرب وطلال حيدر وأنطوان مالك طوق...

سيرة

يستحقّ عبّود التقدير والثناء على جديده فهو أسدى خدمة للشعر اللبناني العاميّ خصوصاً، وللشّعر عموماً وأنجز عملاً شاقًّا، إذ ليس سهلاً الوصول الى سير حياة ثلاثين شاعرًا ومؤلّفاتهم، إضافة إلى أنّ اختيار الكلام، كما قيل، يكاد يكون أصعب من تأليفه، وفي الاختيار بعضٌ من المجازفة. ويشهد كتاب {ديوان الشّعر اللبناني المعاصر} على حياديّة صاحبه وموضوعيّته وقد أنصف الأعلام الذين اختارهم بإفراد المساحة الورقيّة نفسها للجميع، على اختلاف مذاهبهم الشّعريّة وقيمة نصوصهم الفنيّة، ولم يتدخّل كتابيًّا لإظهار تميّز أيّ شاعر...

قد تكون كتب {المختارات}، على رغم أنّها لا تزعم ذلك، شكلاً من أشكال {الغربال} المفقود في زمننا، فتحتفظ ـ إذا أُلِّفت بموضوعيّة وكفاءة ـ بالأسماء التي تستأهل الحضور بما أبدعته، وتبقى أسماء المدّعين ومشتهي الشّعر خارجها.

{ديوان الشّعر اللبنانيّ المعاصر} لحمزة عبّود يشهد له باحثًا ناجحًا، ومحبًّا مخلصًا للقصيدة يطرق بابها بعيدًا من عقدة اللغة ويبني لها بيوتًا من الورق الذي لا يذهب به غبار النسيان.

back to top