البصرة وحلم الجمهوريّة الخليجيّة

نشر في 25-07-2008 | 00:00
آخر تحديث 25-07-2008 | 00:00
No Image Caption
تأليف: ريدر فنشر

الناشر: الجمل

صدر عن «منشورات الجمل» كولونيا ـ بغداد «البصرة وحلم الجمهورية الخليجية». لريدر فنشر وترجمة سعيد الغانمي. يتناول هذا الكتاب بعض الظواهر التي كادت، منذ بداية القرن الماضي، أن تهدد وحدة العراق، من ضمن «اتجاهات انفصالية» نسبت في كثير من الأحيان الى «شيعة العراق» وتحديداً في الجنوب، وقد دحضت الوقائع مثل هذه التوجهات التي ارتبطت احيانا بظروف معينة اتصلت بعلاقة «الاستثمار» الغربي والعثماني بهذه التناقضات. فمنذ الغزو الاميركي للعراق عام 2003، صار يتزايد الحديث عن امكان قيام إقليم شيعي في جنوب العراق، أو حتى نشوء دولة شيعية منفصلة. يعتقد الكثيرون، ولا سيما خارج العراق، أن هناك رغبة جامحة لدى السكان جنوب بغداد في خلق كيانهم السياسي الخاص. يتناول هذا الكتاب، للمرة الأولى، السجل التاريخي للانفصالية ومطاليب اللامركزية في جنوب العراق. كذلك يوضح أن الانفصالية في جنوب العراق كانت من الناحية التاريخية ظاهرة هامشية. وحين كشفت مطاليب الاستقلال في الجنوب عن نفسها، كان ذلك على أساس مدني، وليس على أساس طائفي. يتوافر المثال الأفضل عليها في حركة البصرة الانفصالية في العشرينات من القرن الماضي، التي تزعمها تحالف واسع من النخب الحضرية، شمل السنة والشيعة واليهود والمسيحيين، ودعا الى إقامة كيان سياسي منفصل من الفاو حتى القرنة الى الشمال من البصرة. لكن هذه الحركة الانفصالية اخفقت اخفاقاً ذريعاً، ولم تكن هزيمتها نتيجة عنف او اضطهاد، بل نتيجة انتشار أفكار الوطنية العراقية بين نخبة شباب البصرة.

جنوب العراق

لهذا التراث التاريخي مضامينه بالنسبة الى النقاش السياسي الحاضر. فهو في الحقيقة يكشف أن أهم اتجاه في التاريخ الحديث لجنوب العراق هو الوطنية العراقية وليس سواها. التيار المهم الآخر في جنوب بغداد هو الأقليمية على نطاق صغير، كالذي ظهر في الحركة الانفصالية في العشرينات. من ناحية أخرى، فإن الفكرة التي سادت منذ عام 2005 حول الانفصالية او الاستقلال الطائفي للشيعة من الخليج حتى بغداد لا تتطابق مع أية تجربة تاريخية. يخلص الكتاب الى مناقشة كيفية ارتباط هذه الوقائع التاريخية بالنقاش الجاري الآن عن النظام السياسي الديموقراطي الجديد للعراق وقضية الفيدرالية.

يقول فينشر أنه حين بدأ العمل على هذا الكتاب في منتصف التسعينات، كانت «أوروبا» تعاني مرارة الحرب في قلبها. تفككت يوغسلافيا المتعددة الأعراق، فاسحة في المجال لدول ظهرت تقوم على مفاهيم ضيقة وحصرية من الهوية الوطنية. تساءل كثيرون هل سيتبع الشرق الأوسط مسلكها؟ واذا انهارت أنظمة شمولية تتمسك بالحكم في دول مثل لبنان وسوريا والعراق، فهل ستتعرض للبلقنة أيضا وتتداعى أجزاء؟

أغرى المؤلف هذا السؤال كثيرا، لكنه سرعان ما أدرك أن الشرق الأوسط، بكل ما ينطوي عليه من مشكلات، يقف في مقابلة حادة إزاء البلقان في تناوله لوقائع تعدد الأعراق. وعلى رغم التناظرات والتوازيات التي غالبا ما تؤشر في المتاهات العرقية ـ الدينية الى كل من البوسنة ولبنان، فإن التدابير التي وضعت أخيرا حدا للممارسات العدوانية في هذين البلدين تشير في الحقيقة الى قطبين متناقضين: ففي حين دعم اتفاق «دايتن» التقسيمات العرقيةـ الطائفية داخل البوسنة بين جمهورية الصرب واتحاد الكروات المسلمين، كرست اتفاقية الطائف وحدة لبنان، وأشارت الى ضرورة الابتعاد عن السياسة الطائفية. صحيح أنه حصلت مشكلات لاحقة في تطبيق هذه المبادئ العالية في السياق اللبناني، لكن مع ذلك كانت محاولة متعمدة للتعافي من تعقيد تعدد الأعراق في مناطق تأثرت بالحرب بدلا من الاستسلام لمنطق الحدود العرقية الخالصة.

كان العراق، الذي يتكون سكانه من عرب شيعة وسنة، وأكراد (غالبيتهم سنّة) وجماعات دينية وعرقية صغرى متعددة، شبيهاً بلبنان من حيث انكشافه عن زهو غير مريح بتكوينه المعقد. في التسعينات، كان الدعم البلاغي لنظام البعث لمثل التعايش تفضحه فضحاً وحشياً أفعاله الحقيقية، لكن جماعات واسعة من المعارضة استمرت تدافع بقوة عن مفهوم عراق متعدد الأعراق، موحد، حتى بوجه الاقتراحات المتكررة من الخبراء الغربيين حول تقسيم البلاد. في المقام الأول، أحدث رفض الشيعة خلق انفصالية طائفية في جنوب العراق انطباعا قويا لدى الكاتب، وبدا له علامة تناول بديل للعرقية، وهو نموذج للتعايش ينبغي أن يتعلم منه الأوروبيون الكثير.

تاريخ الانفصال

حين اطلع المؤلف عرضاً على إشارة لمشروع البصرة الانفصالي يعود تاريخها الى العشرينات، كانت استجابته المباشرة أنه قد يكون مفتاحاً لفهم غياب انفصالية الشيعة في الجنوب العراقي طوال الجزء الأكبر مما بقي من القرن العشرين. مهما كان هذا المشروع، فإن غيابه الذي يكاد يكون تاماً عن النصوص السريعة في تاريخ العراق يوحي بأنه أخفق في أن يثمر عن شيء، وبالتالي اختفى اختفاء كاملاً. توقع أن يكشف المثال المدوّن الوحيد لانفصالية الجنوب عن القوى الوطنية العراقية التي عارضت الانفصال في صورة زاهية شفافة، إذ لا بد من أن هذه القوى كانت أقرب الى السطح هذه الفترة من أي فترة أخرى، في أفضل الساعات التي تتطلبها ملحمتها.

واجه الكاتب الكثير من المفاجآت في الدراسة اللاحقة، ليس أقلها أن مشروع البصرة الانفصالي في العشرينات لم يكن في الحقيقة دعوة «شيعية» للانفصال. بل إن تحليله صار يركز بدلاً من ذلك على صورة مدنية منفتحة عالمياً (كوزموبوليتية) لانفصالية أرادت أن تضم كامل مزيج البصرة الديني والعرقي: السنة والشيعة، المسيحيون واليهود، المندائيون والشيخيون، والعرب والهنود. تطلّب الأمر أن تنقضي العشرينات، كي يتجسد نوع من الانفصالية ذو طابع شيعي مميز؛ وسرعان ما أثبت أنه مشروع زائل ايضا. لكن كان من الممكن في كلتا الحالتين، البحث عن الكيفية التي تنامت فيها قوة المثل الاندماجية والوطنية العراقية ـ وإن كان ذلك بطريقة أكثر غموضا مما توقعته في البداية. والتفاعل بين القوى الانفصالية والوطنية، وبالتالي انتصار الايديولوجيين الداعين لصالح دولة مركزية عاصمتها بغداد، هو ما يعنى به هذا الكتاب بأسره.

هكذا تمكنت نظرة متعددة الأعراق الى الأمة من هزم نظرة أخرى متعددة الأعراق ايضا، فكان من اللازم على الانفصالية أن تظل في الخلفية في جنوب العراق طيلة بقية القرن العشرين. وحتى بعد حرب العراق عام 2003 يمكن رؤية نماذج مشابهة لهذه. ما زال كثير من الجنوبيين يدعم مثل الوحدة العراقية والى حد ما صار نموذج الدولة المركزية الواحدة يتعرض للضغط، حيث ينصرف الانتباه للنظرات الإقليمية (التي تشكل فيها البصرة والمحافظات المجاورة لها كيانا منفصلا في عراق فدرالي جديد) وليس استنادًا الى انفصالية شيعية طائفية. تشبث الجنوب بالولاء المتواصل لبغداد بمعزل عن الحقبة التسلطية للبعث، يدحض الفكرة القائلة بأن الوطنية يمكن أن تختزل في دعاية فرضها نظام شرس حين كان في أوج قوته، وحتى الاتجاه الفدرالي الأكثر جذرية في الجنوب تمسّك الى حد بعيد بالنظرة القائلة ببلاد موحدة (على رغم أنها تمتاز أكثر باللامركزية) وكذلك باللغة المضادة للطائفية.

شكوك

المفارقة أن الوطنية العراقية، بتأكيدها على تناول شامل ومتسامح مع العرقية، أسست لمدرسة من المؤرخين المعارضين لأي مخطط يمكن أن يثير الشكوك بخصوص روايتهم عن دولة الأمة الموحدة ـ حيث لم يترك مجال لحركة البصرة الانفصالية وكرّست طاقة ملحوظة لرفضها باعتبارها مجرد تزييف تاريخي.

يبقى أن الوطنية العراقية نفسها هي أيضاً شكل من أشكال الانفصالية عن الكيانين الكبيرين العربي والإسلامي اللذين كثيراً ما تشير إليهما، غير أن فعل عزل العراق عن بلدان عربية أخرى مثل سوريا غالباً ما يُواجه بقبول صامت لدى المؤرخين العراقيين، بخلاف تشويه السمعة الذي جوبه به من لم يتوافقوا في البصرة في سنوات الحرب. وبينما يقترب الدعم الثابت لوحدة أراضي العراق من اتجاه مطلوب فحسب لأن حركات السكان وإعادة ترسيم الحدود يمكن أن تتسبب بإراقة الدماء، فإن الجانب المظلم في دحرجة عملة «الوحدة» ـ وهو التركيز الصارم على التوافق الثقافي ـ يظل تحدياً مهماً للوطنيين العراقيين وهم يشرعون في بناء عراق جديد ما بعد البعث. في هذا السياق، فإن مجرد السماح بإنتاج قصص بديلة (مثل قصة حركة انفصال البصرة) يمكن أن يكون أمراً مفيداً في ذاته. قد يساعد الانفتاح على نقاش أكثر تعددية بشأن الماضي في تعزيز التيارات الموجودة من التسامح العرقي ـ الديني في الخطاب الشعبي العراقي، وربما ترجح القيمة الديموقراطية لهذا على مخاطر احتمال استغلال الغرباء الحمالين للدسائس للتيه عن الملحمة الوطنية الراسخة. وربما تفيد في هذا السياق أيضاً الأفكار المستمدة من مناطق أخرى من العالم عن تعددية كتابة التاريخ في تحقيق غرض بنائي: في حالة البصرة، يمكن أن تنفع مثل هذه التعددية في كشف الأفكار المنسية طويلاً عن نماذج الدولة البديلة لوديان بلاد الرافدين وسهولها (بما فيها الرؤى التي تتوسط بين المركزية المتطرفة التي تقترن بالبعث وانفصالية الأبيض والأسود التي غالباً ما يدعو علماء السياسة الغربيون الى نشرها كحل للعراق)، كذلك كانت صور من الوطنية العراقية أكثر تسامحاً وخصوصية من دعاية الحقبة التسلّطية لما بعد 1958. تستحق مثل هذه الأفكار والرؤى الأصلية أن تؤخذ جدياً في النقاش المتواصل عن مستقبل ديموقراطي جديد للعراق، حيث انحصر الانهماك حتى الآن بمفاهيم ونماذج عن الحكومة مستوردة من الخارج.

back to top