عمر الأنسي شاعر اللون: مائيات الرائد المرهف يلفحها هواء الريف

نشر في 27-08-2007 | 00:00
آخر تحديث 27-08-2007 | 00:00

في أربعينات القرن الفائت سكن عمر الأنسي في بلدة ميروبا اللبنانية (اقليم كسروان). فنّان مرهف شكّلت مائياته نبرة رائدة في محيطه. إختار تلك البلدة الخاشعة المسيجة بالصنوبر والمتشبعة من الينابيع والأنهار في تلك المرحلة النابضة بالفنون التشكيلية على مداراتها. قصد الفنان البيروتي عمر الأنسي ذلك المكان بغية نهل ثقافة اللون من تراب ميروبا ومن شفافية نهرها المنساب حتى أعماق خصوصية المشهد الجاذب بين الصخور ولفيف الشجر. لم يترك لريشته فسحة استراحة. حمل حقيبة الرسم والأدوات ليطبع ذاكرتنا بالسمفونيات المائية. كانت صخور الجوار والوادي ووجوه الفلاحين الغادين الى أعمالهم والنساء رافدات النبع مادة دسمة رسخت تجربته اللبنانية في ذاكرة العالم العربي والغربي على حد سواء.

ماذا اعطت الطبيعة عمر الأنسي ليرصف في الحركة التشكيلية اللبنانية معجم المفردات المائية؟

بينه والطبيعة حكاية عشق تذكّرنا بعلاقة الانطباعيين بمحيطهم (مانيه، مونيه، بيسارو، سيزان، سيزلي وسواهم...). لعلّ تأثيراته رفدت من منهل الانطباعية العالمية غير أنها ترسخت بأصولها الشرقية من خلال المشهد الواقعي وتقنية الضربة المائية المفعمة بالوجدان الشرقي وسحر الألوان وصفائها، أو من النبرة التي تركت في لوحته ما يشبه النوافذ ليدخل الضوء مرتاحاً الى العمل المشغول بمهارة. ثمة رومانسية في تلك الحقبة، ربما لأن مناخنا الاجتماعي السائد آنذاك طبع أحلام الفنان، إذ كانت الطبيعة بعداً أساسياً، أما الإنسان فتكملة للمشهد أو على أبعد حد اطاراً فولكلورياً تراثياً لاشباع المشهد الطبيعي بايحاءات ورموز. هنا رسم وجوه الفلاحين والقرويات مثلما فعل معاصروه أمثال مصطفى فروّخ وآخرين.

هذا الحالة، في الأربعينات، جعلت منه رائد الفن المائي اللبناني بامتياز. ألوانه نابضة بالأخضر والأصفر والليموني. أما التدرجات فمن تلك الطبيعة بحزنها الصامت وتفردها. من جنائن التفاح ومناديل القرويات والزنود المفتولة وشاربي فلاح عتيق كجذع شجرة توت.

ربما تقصد من عزلته (خلال الصيف) مساحة مضيئة وجديدة بعيداً عن بيروت العاصمة بحثاً عن ألوان يستخلصها من داخل الانسان والحجر والماء. أمضى في البلدة الهادئة آنذاك مرحلته الذهبية ناثراً عشرات اللوحات بمثابة عربون شكر وامتنان لمن فتحوا له قلوبهم.

كثيرة حكاياته. هنا استوقف أحدهم محدثاً، تحت ظل صنوبرة، مع ابتسامة لا تفارق ثغره كأنها امتداد لفرح ألوانه. هناك اقتنص أويقات الشروق أو الغروب ناقلاً على الورقة ألواناً مدبجة بثقافة الفرح والشغف، الى تأطير المشهد بحسب انطباعيته، معتمداً السماء الزرقاء أو البنفسجية الفاهية مفاتيح للدخول الى جنائنه التشكيلية.

الانطباعية متوافقة والطبيعة اللبنانية ليصبح المشهد ذات الفنان والعكس صحيح أيضاً. تلك الرومنطيقية المتناغمة مع إبداعات شعرية كأنها يومذاك امتداد لقصائد أبي شبكة وشعراء المهجر قبله. حلم الأنسي رصد حجر بناء عمارة شرقية بتلاوينها الداخلية المليئة بالحب والخوف في آن. أنه حب الأرض والانسان ورفض للآلة وللعمران الحديث: «قلت لهم أتركوا الأشجار. أهبكم الأرض. لا أريد منكم تعويضاً ولا مالاً. لكنهم لم يسمعوا. يقتلعون الأشجار النضرة ليصبوا مكانها الأسفلت».

في منتصف الخمسينات كانت ميروبا والجوار (فيطرون، رعشين، بقعاتا، فاريّأ، حراجل...) كسواها من المناطق الجبلية اللبنانية (بحمدون، صوفر، عاليه، دير القمر...) ترفل بحلة تراثية بعماراتها القديمة المتوجة بالقرميد أو بالسقوف التراب. كان الصنوبر مراوح جبالنا المتغاوية. مرحلة ذهبية لفنانينا، لأدبائنا، لشعرائنا وللموسيقيين. استفاد الأنسي من مناخات المرحلة ليزيد من انتاجه الفني السابق (سافر الى الأردن عام 1922 ورسم في صحرائها الغزلان والبدويات لخمس سنوات متواصلة). غير أن طبيعة كسروان الصخرية الجافة أشبعت حلمه وساهمت في ترسيخ تجاربه وأبحاثه في تكريس الفن المائي اللبناني.

حديقة الغزلان

اختار الأنسي الريف بغية التوحد والعزلة ومحاكاة الجمال البكر. أما منزله في بلدة التفاح والعافية فلوحة في ذاتها. منزله أيضاً جسر تواصل مع المحيط الريفي ونقطة انطلاق يومية في رحلاته الفنية. لا يني كثر يروون كيف كان الأنسي ينهض باكراً شاقاً طريقه بين الكروم بظله الخاشع وابتسامته العذبة راسماً وجوه أبناء البلدة، رجالاً ونساء وأطفالاً، لا سيما المعمرين بلبساهم التراثي مستلهماً العادات القروية. منزله الصغير الخاشع بين الصنوبر كأنه امتداد لتلك التجربة. من شرفته يطل على حلم القرية ويومياتها بعيداً من ضوضاء المدينة بيروت التي يعود اليها شتاءً. اختار البعدين، أما الريف فله في قلبه وأدوات الرسم جانب العشق في آن. منزله الذي زرته قبل سنوات طبقة واحدة ذات مدخل نحت على جانبيه افريز من حجر. ثمة بوابة خشبية خضراء مرتفعة. فوقها كوة من زجاج ومربعات من حديد وثلاث غرف بمساحة نحو 5X5 أمتار للغرفة الواحدة وارتفاع نحو أربعة أمتار. ثم مطبخ قديم ورواق في آخره خزانة خشبية خضراء.

في هذا الفردوس العابق برائحة الصنوبر وتصفيق أجنحة الطيور وسقسقة المياه وحفيف أوراق الدلب والصفصاف عرفت سر عزلة الفنان. المنزل الذي اشتراه الأنسي، بحسب أحد أبناء البلدة، عائد الى ملكية خاصة. بعد وفاة الأنسي بيع مرة جديدة... تظلله صنوبرات تتراقص أفياؤها بين النافذة والسطح. ثمة تربة حمراء من الجهة الخلفية وسلم خشبي... هذه الصورة عن المنزل تعكس الى حد بعيد حقيقة لوحاته. يروي أحدهم: «كان (الأنسي) يعبر الممر يومياً بالشورت. في يده حقيبة. وراء أذنه قلم رصاص». يضيف محدثي: «رسمني الأنسي وأنا أمتطي حماراً. لطالما ردّد: ضيعان لبنان ما يكون فيه ناس يظهروا جمالو. لو لبنان في أوروبا كان سيّاح العالم يأتون بالملايين لزيارته لما فيه من صخور وغابات ولقرب المسافة بين الجبل والساحل».

تذكر سيّدة في جوار منزل الأنسي غزلاناً في حديقته في تلك الفترة. كان جال من قبل في الصحراء بين البدو والغزلان راسماً بالفحم والأكواريل والباستيل والزيت لوحات وطدت علاقته مع الابداع.

يذكر الشاعر الراحل رياض فاخوري في معرض حديثه عن الأنسي في كتابه «حديقة ضيوف»: «لعل فترة ميروبا هي الأغنى، مكنته من رسم هذه القرية وكأنها قرية أحلامه. الهواء الناشف الذي لاءم صحته المتدهورة جعله يعترف الى زوجته الست ماري: أعرف ما الذي سيشفيني يا ماري. انه هواء ميروبا».

في تلك الفترة حاول الفنان إقناع نفسه بأنّ هواء الريف سيشفيه تماماً، غير أن زيت سراجه كان ينبئ بدنو أجله. نخر فيه المرض لسنتين قبل أن يغمض عينيه صباح 2 حزيران ـ يونيو 1969، على حسرتين: طبيعة لبنان المفعمة بالجمال وقلب ماري التي أحبها وأخلص لها مثلما فعلت هي.

مائية للذكرى

خلال تلك المرحلة الأخيرة من حياته عاده في ميروبا د. جوزف الحاج الذي يروي: «عام 1968 زرت عمر الأنسي في فصل الربيع في أعالي بلدة ميروبا الكسروانية، حيث سكن منزلاً ريفياً جميلاً ذا طابع من القرن التاسع عشر. كان رحمه الله هزيل الجسم ضعيف البنية أصفر اللون. على وجهه قسمات حادة من الذكاء وفي نظرته بريق. كان مصاباً بضيق حاد في النفس، سببه نشاف في الرئتين ومظهر سعال متواصل وربو. كلام قليل ومعان بليغة. لفتت نظري اليه دماثة أخلاقه وحسن استقباله رغم مرضه الشديد وألمه. فوجئت بعد أسبوعين بأنه قصدني الى عيادتي (في عشقوت) ليشكرني لأنني زرته أولاً في منزله على بعد كيلومترات من عيادتي وفي ظروف طبيعية قاسية، ولأنني أصبت منه حسناً في الدواء فاستعاد بعضاً من نشاط. خف ضيق نفسه بعض الشيء. فوجئت أكثر اذ حمل تحت ابطه لوحة مائية قدمها لي هدية قائلاً: هذه عربون محبة، بيني وبينك أيها الطبيب. ومن دون أي اعتبار لمكافـأة أو شيء آخر نظرت الى اللوحة فإذا هي رمادية اللون كصخور كسروان، بعيدة الأفق، ترمز الى هذه الطبيعة الفذة القاسية. حاول الفنان بألوانه الفاتحة الشفافة أن يضفي عليها من نعومته. أخفيتها للذكرى لأنني أعلم مسبقاً أن فناناً عظيماً وراء هذا الإبداع الفني الجميل».

back to top