حريق القاهرة بين كتابين حين تكون النيران طريقاً الى العدم الجماهيري

نشر في 30-01-2008 | 00:00
آخر تحديث 30-01-2008 | 00:00

كان حريق القاهرة في 26 يناير 1952 ابشع حدث تعرضت له مدينة القاهرة خلال القرن العشرين، واكثر صفحات تاريخها غموضاً، واشدها تأثيراً في مجريات الاحداث، ويختلف تناوله في الابحاث والدراسات بحسب التوجهات والانتماءات، هذا ما يلاحظه كتابا «أيام القتل العادي» لوضاح شرارة (صادر عن دار النهار) و«مصر بعيون الفرنسيين» لفيصل جلول (صادر عن الدار العربية للعلوم).

ليس حريق القاهرة المتن الأوحد في الكتابين المذكورين، بل هو فصل من فصول حوادث متصلة يرويها المؤلفان، فيقدم وضاح شرارة في كتابه اخبار حوادث قتل كبيرة او صغيرة، طاول بعضها الجماعات وبعضها الآخر افراداً، واستهل بعضها انعطافات تاريخية وآذن بها أو ختمها. والحوداث المروية كبيرة كحريق القاهرة، وايلول الاسود في الاردن و13 نيسان، واغتيال رياض الصلح واخيراً اغتيال رفيق الحريري وغيرها من الملفات الكبيرة التي تشير الى الأحوال السائدة في لبنان والعالم العربي. وسعى شرارة من خلال ملفاته العميقة الى مزج الخبر الصحافي بالتأريخ، والرواية بالتحقيق. اما جلول فيتطرق الى الواقع المصري من «حملة بونابرت» حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر معطوفة على قراءة تحليلية لهذه النصوص وبحث في خلفياتها ومكنونها الخفي، باعتبارها حدثاً تأسيسيًا في تكوين الثقافة السياسة المصرية والعربية، ويعتبر جلول ان حريق القاهرة بدا وكأنه المؤشر الاول في الانتفاضة المصرية والتمرد على الخضوع للغرب، ويبدو، في سياق هذا الفصل بالتحديد، ومثيله الذي يقتبس فيه مقالاً مطوّلاً للكاتب الفرنسي جورج مينان، أنّه أميل الى الاعتقاد أنّ ساعة الصفر التاريخية للردّ المصري على حالات الانتهاك المزمنة التي توّجت بالحملة الفرنسية قد أطلقت من عقالها. وكما يوحي فيصل جلول، ان هذا الحريق الذي لم يكشف حتى اليوم النقاب عن أسبابه الحقيقية ومنفذيه الفعليين، كان استجابة موضوعية لانتقال التململ المصري من القوة الى الفعل. لقد بات الاستياء من أثقال الخضوع للكبت التاريخي، وعياً سياسياً قادراً على ممارسة الحركة في الدائرة الواقعية.

يطلق جلول فرضيات وأسئلة حول المستفيد أو المستفيدين من الحادث ويعتبر أنّ الفرضية الاقرب الى الواقع هي تعدّد الفاعلين. وهو لا يدخل في نسيج الاحوال الاجتماعية قبل الحريق وبعده، ويقول ان هوية المباني المستهدفة تفصح عن ان الحي الاوروبي اتت عليها نيران المتظاهرين، وصبت الجماهير غضبها، على المشهد التجاري الفخم، من متاجر كبيرة وصالات سينما تزهو بأسماء اجنبية، ما ادى الى تغيير عمراني حاسم، اذ انتقل وسط القاهرة بعد الحريق من الازبكية الى ميدان التحرير. ويخلص جلول الى القول انّ حريق القاهرة كان مقدمة حاسمة للثورة المصرية في 23 يوليو. فقد تحققت هزيمة كبيرة بالغرب في عاصمة المعز في ذلك اليوم على ما يؤكد جورج مينان.

فورة بركان

يبدو وضاح شرارة اكثر انغماساً في الاحوال الاجتماعية والسياسية المحيطة بحرائق القاهرة بعيداً عن الفرضيات والاحتمالات التي يتحدّث عنها جلول، ويتناول ما قبل «الحادثة» (حريق القاهرة) وما بعدها وما نتج عنها، فيشير الى ان حريق القاهرة لم يخلف ذيولاً تذكر، اي من نوع الحوادث التي شهدها يوم الحريق. فكأنه ثورة جنون او فورة بركان. فأرغت مصر وازبدت ثم هدأت وانصرف الناس الى بيوتهم ومنازلهم، ومعنى هذا ان القاهرة لم تخرج، على مأثرة الحرائق والحراقين، على سلطة الجيش والقوى الامنية. ولم يبلغ الخبر الصحف الا بعد يومين. ولم تثر هذه الاصداء الخافتة الضعيفة اثراً في الاهالي، ولا في القاهرة، لا في المدن ولا في الارياف.

وينتصب حريق القاهرة بحسب شرارة علما على التداعي العام الذي اصاب المدينة ومجتمعها، يؤذن هذا التداعي بسياسة عامة طبعت التاريخ العربي المعاصر بطابعها. فسادت قيمة وجوه الحياة الاجتماعية والسياسة والثقافة سيادة غير منازعة. فمن ذلك انكار التلازم بين السياسة وبين الاختلاف في المصالح والرأي، والنزوع الى انشاء قوة متماسكة من فتات الفئات الاجتماعية المتداعية ومن مطاليبها المتباينة والمتضادة، والتسلل الى ذلك بتذويبها في صورة زعيم او قائد. والجماهير هذه لا تصنع شيئا، حادثة او فعلا او مجتمعا، ويقتصر صنيعها على ولادة نفسها وتمجيد هذه الولادة. وعلى هذا تعلي الجماهير فوق الجميع عصبيتها ومثال صورتها المتوهمة. اما السياسة فمثالها التظاهر واستعراض الحشود «المليونية» وهي نتاج الغيبوبة الجماهيرية التي تسعى الى الاتحاد وطرد الغريب. وهذه الغيبوبة، طوت صفحة من تاريخ القاهرة، المدينة، وابتدأت صفحة الركام السكاني والجماهيري. وهي، اي الغيبوبة، صفة من صفات الحركات الجماهيرية. فهي تخرج الجماهير من تعليقها بأوضاع جزئية، وافعال يومية، وتطلق ضوابط الحياة اليومية، والفرقة بين اجزائها من مراتب وطبقات، فتتوهم مباشرة التاريخ من غير واسطة ولا وسيط. وتنزع عنها، في الوهم، قيود الانقسام والاختلاف. يضيف شرارة اذا أنّ طرد الاجانب من مصر، من ايسر الامور وأهونها. فلا يتكلف «الشعب» الا أن يهب هبة رجل واحد ويبدّد المال الاجنبي، والا ان يقتل وهذا كله تصنعه الجماهير، في غيبوبتها، فحال سكان القاهرة، بين اغماضة عين ويقظتها، انهم انفضوا عن انفسهم، وعن بلدهم، غبار العقود المتراكمة ومصاعبها وثقلها.

واذ لم يخلف الحريق إلا شعبويات رخوة وعدمية، يضيف وضاح شرارة انّه لما وقع حريق القاهرة كان 37 في المئة من اهالي المدن من غير عمل معروف، و12 في المئة منهم خدماً. وفي حين زاد عدد سكان مصر، بين 1914 وبين 1958، ضعفين، فبلغ حوال العشرين مليونا، زاد عدد الفقراء المعوزين ثلاثة اضعاف ونصف الضعف.

المحاكمة

ولما كان حريق القاهرة كارثة فمحاكمة المتهمين بافتعاله كانت فضيحة. يقول فيصل جلول أنّ الامتناع عن كشف النقاب عن تفاصيل الحريق الدقيقة وتحديد هوية الفاعلين قد يكون ناتجاً عن تعدد الاطراف، وتعذر حصر التهمة في طرف، وعن الخوف من العواقب المالية التي يمكن ان تترتب على حرق ثروة اوروبية مصرية هائلة، ولربما ايضا لوجود مستفيدين كثر من الحدث في السلطة والمعارضة والجيش ما ادى الى اعتقال احمد حسين بوصفه «كبش محرقة» نموذجياً في ظرف من هذا النوع.

باختصار، يبدو فاعل حريق القاهرة غامضاً وواضحاً، مثل الاغتيالات السياسية في لبنان في الحقبة الاخيرة، وتأثير حريق القاهرة على القاهرة نفسها بمثل تأثير الانظمة التوتاليتارية على الشعوب.

واذا كان حريق القاهرة مولد الجماهير العربية المعاصرة، فلا شك في ان حريق بيروت المستمر، ثمرة هذا «الانجاز»، والنافل انه في «حرب السنتين» في لبنان كان اول هدف للمتحاربين حرق وسط بيروت من قبل الاحزاب المتنازعة، وغداة بدء الازمة السياسية الراهنة كان اول هدف للتعطيل هو الوسط التجاري، وراودت بعضهم «فكرة» إشعال النار فيه، وليس ذلك من باب التخمين فقد سمعنا كلاماً من هذا القبيل على لسان قائد من عشاق «الشعب» والجماهير.

القضاء الناصري

يذكر جلول ان القضاء المصري فشل في العهد الملكي في اثبات التهمة على الراديكالي احمد حسين، ولم يحدّد العهد الجمهوري الوليد بعد شهور من الحرائق هوية الفاعلين ولم تبادر وجهات مستقلة الى اجراء تحقيق تتضح من خلاله المسؤوليات. في المقابل يذكر وضاح شرارة ان القضاء الناصري انتهز انصرام سبع سنوات على اقصر حكم اصدره القاضي الملكي في 1952 فأعاد، في 1959، محاكمة الذين دينوا وبرأ ساحتهم من غير أدلة حاسمة جديدة. فوارى الصمت وتنصل عن احدى الحوادث الاعمق دلالة في التاريخ المصري، وفي التاريخ العربي كذلك. ولم تقتصر اجراءات الحكم على مقاضاة من قاضاهم القضاء المصري ودانهم قبل منتصف آذار. فقد اتخذ قرارات جزئية كثيرة منها تهمة الحزب الاشتراكي وقيادته. يضيف شرارة لم يبق من حراقي القاهرة، اي اثر جنائي وقضائي محقق او مرجح، على رغم توقيف مئات الفاعلين بالجرم المشهود. ويعتبر شرارة ان القرارات التي اتخذت والخياطين الثلاثة وبائع التمور وساعي البريد والسنكري الذين دينوا بما يعجزون عنه ليسوا الا الخاتمة الضعيفة والتافهة لحادثة لا يقاسون بها ولا تقاس بهم.

والعلامة على حرائق القاهرة والغموض الذي اكتنفها هو ما نسب الى عبد الناصر في حديثه عنها، فينقل بعض الكتاب المصريين ان عبد الناصر وجه الاتهامات بحريق القاهرة في عدّة اتجاهات، مرة الى الشيوعيين وأخرى الى الاخوان المسلمين، لكنّ عبد الناصر نفسه قال في حفلة افتتاح مجلس الامة سنة 1960 «لقد كان حريق القاهرة اول بادرة للثورة الاجتماعية على الاوضاع الفاسدة، وحريق القاهرة هو تعبير شعبي عن سخط الشعب المصري، على ما كانت ترزح فيه مصر من اقطاع واحكار واستبداد رأس المال».

وتبدو التهم الناصرية جزءاً من الاستعمال «البراغماتي» في السياسية، فحين يكون الخطاب «شعبويًا» موجهاً الى الجماهير المنارة يعتبر الحريق انتصاراً، وحين كان يبحث عن طرق للحرب على خصومه كالاخوان المسلمين والشيوعيين كان بتبعة الحرائق عليهم.

back to top