التقلبات الجيوسياسية في محيط روسيا بدأت

نشر في 21-10-2022
آخر تحديث 21-10-2022 | 00:00
صاروخ نووي روسي
صاروخ نووي روسي
قد ينشغل الغرب اليوم بالرد على الحرب الروسية ضد أوكرانيا وتداعياتها على إمدادات الطاقة والتضخم، لكن يجب ألا يفوّت الأميركيون والأوروبيون هذه الفرصة، مما يعني أن يستغلوا هذا الخطأ الروسي الاستراتيجي الجسيم لتحسين الوضع القائم ومنع تدهور الظروف في الأماكن التي كانت فيها القوة الروسية مريعة في الماضي.
لا أحد يعرف نهاية الحرب الروسية في أوكرانيا، لكن من الواضح أن روسيا لن تفوز بها، وحتى لو تحققت بعض المكاسب التكتيكية بعد قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استدعاء مئات آلاف الجنود الجدد وعديمي الخبرة، يُعتبر غزوه لأوكرانيا مجرّد خسارة استراتيجية، فقد ضعفت روسيا اقتصادياً، وسياسياً، وعسكرياً، وحرص بوتين على تصعيب الشتاء المرتقب في أوروبا، لكنه سرّع بذلك مسار تنويع الطاقة وتغيير مصادرها في القارة العجوز، كذلك كشفت إخفاقات الجيش الروسي ونزعته إلى ارتكاب أعمال وحشية واسعة النطاق أن قدرات موسكو العسكرية التقليدية هي مجرّد فكرة خادعة، وإذا نفّذ بوتين تهديده باستعمال الأسلحة النووية في أوكرانيا، فلا مفر من أن تتوسّع هزيمته الاستراتيجية.

لهذا السبب بدأت قوة روسيا ونفوذها يضعفان بكل وضوح، مع أن المحللين والمسؤولين الغربيين يحذرون من المبالغة في توقّع انتصار أوكراني سريع، فلا تعمد روسيا اليوم إلى الانسحاب لكنها في طريقها إلى الانكماش، ونتيجةً لذلك، يسود شكل من التقلبات الجيوسياسية الهائلة في محيط روسيا، من شرق أوروبا إلى آسيا الوسطى، إذ من الطبيعي أن تنتج روسيا المنكمشة فراغاً قادراً على زعزعة الوضع الهش أصلاً في المرحلة الراهنة.

على مستويات عدة، يُعتبر الانكماش الروسي امتداداً لمسار بدأ مع انهيار الإمبراطورية السوفياتية، فمنذ وصول بوتين إلى السلطة، حاول نظامه الاستبدادي أن يفرض القوة الروسية في جميع المساحات السوفياتية السابقة، وكانت سياساته ترتكز على رغبته في إعادة فرض سيطرته على الأراضي السوفياتية السابقة التي يعتبرها دولاً غير شرعية أو غير مستقلة بالكامل، وخوفه العميق من أن تصبح أي صحوة ديموقراطية في تلك الأراضي ظاهرة مُعدِية، ففي جورجيا، ومولدوفا، وأرمينيا، وأذربيجان، افتعلت روسيا صراعات مجمّدة، أو حافظت عليها، لاستعمالها كنقاط ضغط وورقة مساومة، وهذه المقاربة تحمل قواسم مشتركة كثيرة مع حرب بوتين ضد أوكرانيا، بدءاً من غزو شبه جزيرة القرم في عام 2014، وصولاً إلى تصعيد الوضع بالكامل في شهر فبراير الماضي، وقد زادت حدّة الصراع حين أنكرت روسيا وجود أوكرانيا كوطن ولغة وثقافة بحد ذاتها.

الآن وقد أصبحت موسكو عالقة في مستنقع حربها الكارثية في أوكرانيا، قد تحصل جورجيا على فرصة تطبيق إصلاحاتها الديموقراطية وتوجيه نفسها نحو المحور الغربي، لكن تراجعت الديموقراطية هناك بدرجة كبيرة للأسف في السنوات الأخيرة، ويسيطر ملياردير تربطه علاقات وثيقة مع روسيا ويحمل رأياً معتدلاً تجاه موسكو على الحكومة: إنه رئيس الوزراء السابق بيدزينا إيفانيشفيلي، ويسيطر حزبه، «الحلم الجورجي»، على المشهد السياسي المحلي منذ عام 2012، وفي الوقت نفسه، تكثر الانقسامات الداخلية في البلد، ويستفحل الفساد في كل مكان، وبدأت المساحة المتاحة أمام المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة تنكمش، كذلك هاجمت حكومة جورجيا السفير الأميركي، رغم دور الولايات المتحدة كأهم شريكة أمنية للبلد، وفي هذه الظروف، غابت جورجيا عن قائمة المرشّحين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، علماً أنها شملت أوكرانيا ومولدوفا في شهر يونيو الماضي.

قد يسمح انكماش القوة الروسية، على وقع الهزيمة الاستراتيجية في أوكرانيا، بتعميق الروابط بين جورجيا والغرب، لكنّ الثقافة السياسية السامة داخل جورجيا تجعلها أقرب إلى جزيرة سياسية.

في مولدوفا، تراجعت قوة بوتين في الوقت المناسب، وبعد انتخاب مايا ساندو، الإصلاحية الشابة والجذابة، كرئيسة البلد في أواخر عام 2020، حيث تحرص مولدوفا اليوم على إحراز التقدّم، وتعني مكانتها الجديدة كدولة مرشّحة للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي أنها أصبحت الأوفر حظاً للاندماج مع الغرب، رغم استمرار واحد من صراعات روسيا المجمّدة على أرضها.

طوال ثلاثة عقود، نشرت روسيا القوات العسكرية وخزّنت الأسلحة في ترانسنيستريا، المنطقة الواقعة بين نهر «دنيستر» والحدود الأوكرانية في مولدوفا، حيث دعمت موسكو هناك حكومة صُوَرية يشارك فيها قادة متنوعون ومهرّجون ولطالما سيطرت عليها بدرجة معينة، وفي السنوات الأخيرة، حاولت حكومة مولدوفا أن تزيل القيود المفروضة على سكان ترانسنيستريا للسماح لهم بالمشاركة في الاقتصاد على الجانب الآخر من النهر، انطلاقاً من النظرية القائلة إن إعادة الاندماج تنجم في المقام الأول عن التواصل مع الروس بدل محاولة طردهم.

إذا نجحت مولدوفا، بدعمٍ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في إحراز التقدم المنشود على مستوى حُكم القانون والنمو الاقتصادي، فستزيد جاذبيتها بنظر سكان ترانسنيستريا طبعاً، والوقت وحده كفيل بتحديد نزعة السياسيين المولدوفيين إلى اعتبار التمويل الروسي سخياً بقدر ما كان عليه قبل الحرب، بعدما رزحوا تحت ثقل الفساد الروسي تاريخياً، وفي مطلق الأحوال، قد ينتج تركيز بوتين على إنقاذ حربه الخاسرة في أوكرانيا المساحة التي تحتاج إليها مولدوفا للمضي قدماً، من دون مواجهة القدر نفسه من الحملات الروسية التخريبية المتواصلة، فيجب ألا يبالغ أحد في تفاؤله، إذ تشمل ترانسنيستريا حتى الآن مجموعة من الأسلحة الروسية والجنود الروس ولا بد من سحبهم بطريقة ما، ومع ذلك، تبقى مولدوفا من الدول الأوفر حظاً لإيجاد حل معيّن في السنوات المقبلة، مقارنةً بالصراعات الروسية المجمدة الأخرى، فقد بدأ القادة الديموقراطيون المتحمسون يظهرون على الساحة، في حين أصبح بوتين في موقف ضعيف.

على صعيد آخر، قد تُحقق منطقة البلقان، حيث تحتدم الصراعات الروسية منذ وقتٍ طويل، مكاسب كثيرة بعد تراجع النفوذ الروسي، فقد طوّر بوتين علاقته مع الزعيم الصربي، ألكسندر فوتشيتش، ونجحت الجهود الدبلوماسية الروسية في استمالة جزء كبير من الرأي العام الصربي، حيث خاض فوتشيتش لعبة ناجحة لإقامة التوازن المطلوب بين المصالح الروسية، والأوروبية، والأميركية، والصينية، فجعل هذه الأطراف كلها في صدام دائم لتنفيذ أجندته الخاصة، وقد يزيد التراجع الروسي بسبب الحرب اهتمام فوتشيتش بتطوير علاقاته الاقتصادية مع بكين، تزامناً مع تجهيز حكومته للتعاون مع بروكسل وواشنطن بطريقة بنّاءة، لكن لا أحد يعرف بعد إلى أي حد يميل فوتشيتش إلى حل مشاكل صربيا العالقة مع كوسوفو، أو يملك المساحة السياسية اللازمة لتحقيق هذا الهدف الذي يبقى شرطاً مسبقاً لدمج صربيا بالكامل مع أوروبا.

وبما أن بوتين اعتاد لفترة طويلة على تأجيج الصراعات في كل مكان، يجب أن يتنبّه الغرب إلى منطقة البلقان تحديداً رغم انشغال روسيا في أوكرانيا، ففي البوسنة والهرسك، قد يكون الدعم الروسي القديم لزعيم صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، الفتيل الذي يحاول بوتين إشعاله لافتعال المشاكل في أوروبا، فقد اجتمع دوديك حديثاً مع بوتين، وأعلن دعمه للاستفتاءات الصُوَرية التي استعملتها روسيا كعذرٍ لضم أربعة أقاليم أوكرانية في الشهر الماضي، ويعرف الجميع أن البوسنة والهرسك ضعيفة سياسياً، ويتعلق جزء من السبب بفشل البلد في تبنّي إطار عمل دستوي فاعل وطويل الأمد وعجز الشركاء الخارجيين عن دعمه بالشكل المناسب، وفي تعديل آخر لقواعد الصراعات المجمّدة، قد يقرر بوتين مثلاً أن يُشجّع دوديك على إعلان نيّته دمج جمهورية صرب البوسنة (المنطقة ذات الأغلبية الصربية داخل البلد) مع صربيا رسمياً. تكثر المسائل التي تتنافس اليوم لجذب اهتمام البيت الأبيض، لكن قد تُوجّه أي زيارة من الرئيس الأميركي أو نائبه إلى العاصمة سراييفو رسالة بالغة الأهمية.

أي واحدة من قطع الدومينو هذه ستسقط أولاً، ومتى سيحصل ذلك وبأي طريقة؟ لا يزال الوقت مبكراً على توقّع النتيجة النهائية لهزيمة روسيا الاستراتيجية المرتقبة لأن حجم هذه الهزيمة لم يتّضح بعد، فلا مفر من سقوط قطع الدومينو في العالم الجيوسياسي، لكنها لا تسقط بالطرق المتوقعة دوماً، ففي النهاية، لن تكون السياسة الدولية مشابهة لعلم الفيزياء لأن القوى التي تنتج الظروف الجيوسياسية تبقى أكثر تنوعاً وقواعدها أقل توقّعاً.

لكن من المعروف أن مراحل المرونة الجيوسياسية تزيد أهمية الجهود الدبلوماسية التي تملك الآن فرصة متزايدة للتأثير على طريقة سقوط قطع الدومينو، وقد ينشغل الغرب اليوم بالرد على الحرب الروسية ضد أوكرانيا وتداعياتها على إمدادات الطاقة والتضخم، لكن يجب ألا يفوّت الأميركيون والأوروبيون هذه الفرصة، مما يعني أن يستغلوا هذا الخطأ الروسي الاستراتيجي الجسيم لتحسين الوضع القائم ومنع تدهور الظروف في الأماكن التي كانت فيها القوة الروسية مريعة ومتحجرة في الماضي.

* دانيال ب. باير

Foreign Policy

back to top