في استعارة الاستعارة... «الشهيد» مثلاً

نشر في 21-10-2022
آخر تحديث 21-10-2022 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي بقدر ما هنالك من اتفاق حول مفهوم الشهيد، أي المجاهد في سبيل شأن الإسلام والإيمان بعدم انقطاعه عن الحياة بعد الموت حتى البعث، فإن استيعاب المفهوم على أرض الواقع يثير جدلا من حين لآخر، ومن ذلك ما إذا كان مفهوم الشهادة يسري على غير المسلم من أديان أخرى، بل في أحيان على غيرهم من الرفاق الشيوعيين على سبيل المثال.

الحق أن المفهوم هو جزء أصيل من الخطاب السياسي الإسلامي وثمرة صقل مستمرة في سياق بناء دولة الإسلام، فقبل ذلك لم يكن وصف الشهيد معروفا، ولربما يكون مرد الأمر إلى عدم إيمان العرب قبل الإسلام بالبعث، ذلك رغم إيمانهم بإله منزه حيث لم تكن أصنامهم إلا وسيلة تزلف إليه (الزمر 39/ 3). أجل فما دار من حوار بين العاص بن وائل ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام حول «من يحيي العظام وهي رميم» (يس 36/ 78) يدل دلالة واضحة على ذلك المغزى، ولعل الإيمان بالعدم بعد الحياة الدنيا كان متفشيا في الأوساط الوثنية آنذاك، كما الحال في معتقدات الإغريق، مما يشير أيضا إلى احتمال اتصال فكري بين العرب والإغريق سابق على الحقبة الهلنستية.

ورغم تكرار ورود مقطعي شهيد وشهداء في النص القرآني، لا سيما في سياق النزول الكثيف في الحقبة المكية، فإن مدلول ذلك كان منصرفا إلى المعنى المتعارف عليه للشاهد والشهود، أي من يشهد ويعلم أمرا ما، أجل ففي تلك المرحلة الكامنة من الدعوة للدين الجديد لم يكن لمفهوم الشهيد بمعنى المقاتل حتى الموت وجه ضرورة.

تعريف الشهيد، شأنه ووصف حاله ورد بحسب ترتيب النزول متأخرا في سياق الحقبة المدنية، فهناك يشير القرآن في أكثر من موضع إلى الحياة الدائمة بعد الموت لأولئك الذين قتلوا في سبيل الله، بل يرد ذلك في سياق الإنكار على من يحسبهم أمواتا (البقرة 2/ 154 وآل عمران 3/ 169). ولقد جاءت تلك النصوص في سياق زخم القوة الذي اكتسبته الرسالة وأصبحت ندا وقوة فاعلة، قابضة على زمام أمرها بعد أن كانت منفعلة تحت وطأة اضطهاد النخبة المكية، فتلك النصوص تنصرف إلى معطيات منها نتائج معركة أحد التي منيت بها النواة المسلمة آنذاك بهزيمة مؤلمة وتكبدت عددا من القتلى.

ورغم دقة الوصف فقد خلا القرآن من إطلاق مفهوم يختزل ذلك الوصف، فتعريف من يكون الشهيد مقرونا بمفهوم يختزل وصفه واستتباعاته على نحو محكم يأتي في سياق الحديث النبوي في الشهداء، أي فيمن يقتل في سبيل الإسلام وغيره من الشهداء. يأتي ذلك بحق معبرا عن مرحلة متقدمة من تراكم مخزون القوة بعد وضع أساس دولة الإسلام ومرغبا في الجهاد في سبيل هذا الشأن، واستعارة مفهوم شهيد لوصف هؤلاء يأتي متوائما مع صفتهم بالأحياء كما ورد في النص القرآني، فلا ريب أن من معاني الشهود هو الحضور الحي والمطرد والعابر لمراحل الزمن.

ولا ريب إذن أن مفهوم الشهيد صناعة إسلامية بحتة وتمثل أحد عناصر الخطاب السياسي الإسلامي في تلك المرحلة المبكرة، كما ترد في سياق منسجم مع التطور النوعي الذي خبر بناء الدولة آنذاك، فإن أراد البعض استعارته، أو استعارة الاستعارة شأن مفاهيم أخرى، أي استخدامه في غير سياقه، فلا يمكن منع هذا البعض من ذلك، إلا أن ذلك يكون على سبيل المجاز ليس إلا!

د. محمد بن عصّام السبيعي

back to top