آثام الديموقراطية (2-2)

نشر في 16-09-2022
آخر تحديث 16-09-2022 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي الانتقاد الآخر يتناول دور الديموقراطية في تمكين التعددية، المترتبة بدورها على المبدأ السابق، أي المساواة، فطالما هناك مساواة بين الأفراد، وبما أن الأفراد مختلفون فالمجتمع على موعد أكيد مع تعددية في الآراء وفي الأفضليات أيضا، غير أن تبعة ذلك، وهذا هو محط الانتقاد، هي التكلفة الباهظة للاتفاق، أكان ذلك في تشكيل الحكومات أو في سياق اتخاذ القرار. ويمكن قياس تلك التكلفة بمقابل ذلك من مورد الوقت غير المتجدد الذي يذهب هباء، وما يذهب معه عبثا من تنمية محققة في حال سارت الأمور سيرة أسرع، ويبدو ذلك جليا في عالم اليوم من حال مترهلة تسم عديدا من الديموقراطيات الغربية بلغت عدم القدرة على اتخاذ القرار العاجل والحازم، حتى فيما يمس أحياناً جانباً حيوياً كالأمن، بل يتجلى ذلك أكثر حين تأمل أنظمة سياسية أخرى، لا تدعي البتة هوية ديموقراطية إلا أنها أكثر فعالية فيما تتردى فيه النماذج الديموقراطية، أي في تحقيق الرضا العام أكان على صعيد الرفاهية أو الأمن، ولذا تتصدر اقتصادات هذه الدول منذ سنوات قوائم النمو الاقتصادي، بما يعنيه ذلك من نمو متواتر للثروة الوطنية وخلق فرص العمل، وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يجد الفساد موضعه المكين حيث يغيب الحزم ويتلكأ القرار، لا يشفع في ذلك أن يقال هذا نظام ديموقراطي وهذا لا، لذا لا عجب أن تتقدم دول تفتقد للسمات الديموقراطية، كالصين مثلاً، في مؤشر مدركات الفساد، في حين تأتي متأخرة دول لا ريب في بنائها الديموقراطي كالمجر، بل أخرى مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي.

سهم الانتقاد الأخير يوجه إلى فضيلة الديموقراطية في تمكين الأغلبية في المجتمع من تولي سدة الحكم، والأمر وإن بدا مثالياً بأن تدير الأغلبية مجريات الأمور، بحكم كونها كذلك من وجهة نظر إحصائية، إلا أن الأغلبية ليست كل السكان أو أفراد المجتمع كافة، بل قد لا تزيد على نصف المجتمع إلا قليلا، هذا إن لم تتسيد المجتمع عبر قنوات ديموقراطية إحدى الأقليات لسبب يعود إلى تشتت سائر المجاميع السياسة الأخرى وعدم قدرتها، أو رغبتها في الاتفاق، لذا فمن مثالب هذه الحال التي أشار إليها أرسطو مبكرا في تصنيفه للنظم السياسة، وأكدها الفرنسي دوتوكفيل في «دراسة الديموقراطية في أميركا» في القرن التاسع عشر، هو نزوع الأغلبية الحاكمة نحو إهمال حقوق الأقلية أو الأقليات الأخرى، ولذا ففي المجتمعات التي تكشف عن تنوع إثني أو طائفي، حيث تخشى الأقليات تغولا من الأغلبية، فإن مثل تلك الأقليات قد تجنح نحو نظام، وإن كان غير ديموقراطي، إلا أنه يؤمن فرصها في الأمن أولاً وفي الصعود والرفاهية على أية حال، وأخال الأمثلة على مثل ذلك الحال عديدة سواء في التاريخ الحديث والمعاصر، حيث نشهد تحالفاً بين طواغيت وأنظمة غاشمة وأقليات عرقية أو طائفية حيال أغلبية محكومة، هذا إن لم تسنح فرص تاريخية لمثل تلك الأقليات بأن تتربع بلا واسطة من طاغوت على رقاب الأغلبية.

خلاصة القول أن الديموقراطية ليست بالعقيدة ولا بذات قيمة بحد ذاتها، بل تقدم حلاً لاشكال الحكم في المجتمع، وهي بذا تتوخى في المحصلة هندسة سياسية لتحقيق الرفاهية العامة، فإن لم تقدم إلى جانب ذلك آليات تصحيح للنقائص أو الآثام المشار إليها فهي على موعد مع الفشل، وأي فشل! أجل هي أشبه بمركبة لإيصال ركابها إلى مبتغاهم، فإن أخفقت تضحي كل تلك الهندسة أشبه بفن لا يؤتي خبزاً!

د. محمد بن عصّام السبيعي

back to top