الناحية الإيجابية من أوهام بوتين

نشر في 19-08-2022
آخر تحديث 19-08-2022 | 00:05
العملية العسكرية الروسية
العملية العسكرية الروسية
لن يعطي التاريخ «القيصر» الروسي الراهن لقب «فلاديمير العظيم» بل «فلاديمير الأحمق». حتى حربه الفاشلة ونتائجها العكسية لن تطلق حقبة جديدة من الحروب بين الدول، بل سيجعل جنونه الحكّام الآخرين أكثر حذراً وتحفظاً ويُمهّد لاستمرار ظاهرة تراجع الحروب الدولية.
عندما أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العملية العسكرية الروسية «الخاصة» ضد أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، كانت أوروبا بمنأى عن الحروب الدولية منذ ثمانين سنة تقريباً، وقد تكون هذه المدة أطول فترة تخلو من الحرب في القارة، التي شهدت أكبر الحروب سابقاً، منذ أيام الإمبراطورية الرومانية على الأقل.

في العقود الأخيرة، انتشر نفور تام من الحروب الدولية على نطاق واسع، بما يشبه النزعة السائدة في أوروبا. نتيجةً لذلك، وقعت ثلاث حروب أخرى بين الدول فقط، واعتُبِرت صراعات مسلّحة أسفرت عن مقتل ألف شخص على الأقل خلال المعارك سنوياً.

خاضت إثيوبيا وإريتريا حرباً مماثلة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وارتبطت الحربان المتبقيتان بالغزو الأميركي، الذي كان يهدف إلى إسقاط الأنظمة، في أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003 بعد هجوم 11 سبتمبر، ثم تحوّلت كل حرب منهما إلى صراع مطوّل لمكافحة التمرد أو التصدي للاحتلال.

يخشى بعض المحللين الآن أن يتوقف هذا التراجع في عدد الحروب بين الدول ويتخذ مساراً معاكساً. في مقالة نشرتها صحيفة «فورين أفيرز» في شهر مايو، عبّرت العالِمة السياسية، تانيزا فازال، عن قلقها من أن تؤدي حرب بوتين إلى زيادة حالات الحرب وتصاعد وحشيتها أيضاً».

لكن بعد مرور خمسة أشهر على بدء الحرب في أوكرانيا وبلوغها مرحلتها الراهنة، يرتفع احتمال أن تُرسّخ مغامرة بوتين النفور العام من الحروب الدولية وتعيد إحياءه، ولا يرتبط الهدف الأساسي بتحقيق النصر بقدر ما يتعلق بتدهور وضع البلد الذي أطلق الحرب نتيجة اتخاذه هذا القرار، سبق وتحقق هذا الهدف بشكل عام.

ردّ العالم على غزو بوتين لأوكرانيا بالقدر نفسه من الاشمئزاز، مثلما تعامل مع استيلاء صدام حسين على الكويت في عام 1990.

وعبّر بعض صانعي السياسة عن القلق من أن تقوم الصين بالمثل وتغزو تايوان، لكن تتراجع المؤشرات على تكرار التجربة نفسها من الجانب الصيني.

تكاليف الحرب

ويستحيل ألا يلاحظ المعتدون المحتملون ضخامة تكاليف الحرب المفروضة على روسيا، من حيث الخسائر البشرية والاقتصادية والعزلة الدولية.

فالاقتصاد الروسي الكليبتوقراطي في وضعٍ سيء أصلاً منذ عشر سنوات، ومن المتوقع أن تُبعِد الحرب الروسية المشترين والمستثمرين مادام بوتين في السلطة على الأقل، أو ربما فترة أطول بكثير.

كذلك، قد يلاحظ المعتدون المحتملون أن بوتين سيضطر لإعادة بناء الأراضي التي استولى عليها في أوكرانيا وتمويلها وحُكْمها.

ففي المناطق التي احتلّتها القوات الروسية منذ بدء الحرب، وجد الروس صعوبة في حُكم المساحات المكتسبة، إذ يبدو أنهم لا يجيدون احتلال الأراضي وإدارتها بطريقة مدنية، بل تميل القوات الروسية إلى ارتكاب الأعمال الوحشية التي تزيد عدائية الناس تجاه المحتلين الأجانب.

من دون اتفاق مستدام وجدير بالثقة لوقف إطلاق النار، ستضطر روسيا للدفاع عن مكاسبها الجديدة طوال سنوات أو حتى عقود.

وقد عبّر بوتين في مناسبات متكررة عن استيائه من إقدام القوات الأوكرانية على مضايقة وقصف أراضي «دونباس» الصغيرة التي انفصلت عن أوكرانيا في عام 2014 ثم تقبّلت الحماية الروسية. وتشكّل الأراضي التي تحاول روسيا غزوها والسيطرة عليها الآن، بما في ذلك مقاطعات كاملة من «لوهانسك» و«دونيتسك»، هدفاً أكثر أهمية للقوات الأوكرانية التي تزداد تسلّحاً وعدائية.

يبرز أيضاً احتمال الدفاع عن المناطق المحتلة حديثاً بعد سنوات من الحروب غير النظامية التي أطلقها المتمردون الأوكرانيون في المدن، وبدأ هذا التوجه يتحقق منذ الآن، ففي الفترة الأخيرة، قُتِل رجل أوكراني كانت القوات الروسية قد عيّنته رئيساً جديداً لإدارة الشباب والرياضة في مدينة «خيرسون» خلال تفجير سيارة.

وشدّد بوتين، في خطاب إعلان الغزو، على «استحالة أن تشعر روسيا بالأمان أو تحرز التقدم وتحافظ على وجودها إذا كانت تواجه تهديداً دائماً من الأرض التي تحكمها أوكرانيا اليوم»، حتى أنه ذهب إلى حد تشبيه أوكرانيا بألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية، فهو يعتبر هذه المواجهة حتمية، ويزعم أن أوكرانيا كانت تسعى إلى اكتساب أسلحة نووية.

بوتين ليس الزعيم العالمي الوحيد الذي سمح لنفسه بالانغماس في هذه الأوهام، إذ أصرّ الرئيسان الأميركيان السابقان جورج بوش الأب وبيل كلينتون مثلاً على اعتبار أي انقلاب في هايتي «تهديداً استثنائياً وغير مألوف على الأمن القومي والسياسة الخارجية والاقتصاد في الولايات المتحدة».

حتى أن سلفَيهما هاري ترومان وليندون جونسون كانا مقتنعَين بأن امتناع الولايات المتحدة عن التدخل في الحروب الأهلية في كوريا وفيتنام سيؤدي إلى اندلاع حرب عالمية، لكن ترافقت الحرب الروسية ضد أوكرانيا مع نتائج عكسية كفيلة بردع أي طرف يفكر بإطلاق تحرك مماثل.

ذكر بوتين في خطاب إعلان الحرب أن «الوضع في روسيا يزداد سوءاً وخطورة مع مرور كل سنة جديدة نتيجة توسّع الناتو شرقاً».

تحرك فاشل

وبغض النظر عن ارتباط حربه بإبعاد الناتو عن الحدود الروسية، أو تفكيك وحدة الحلف، أو إنشاء منصة لإحراز تقدّم عسكري آخر مستقبلاً، أو تحسين مكانة روسيا، يبقى هذا التحرك فاشلاً بامتياز، حتى أنه دفع السويد وفنلندا، جارتَي روسيا الحياديتَين منذ وقت طويل، إلى تقديم طلب للانتساب إلى الحلف، مما يعني أن الحرب لم توقف توسّع الناتو، بل أصبح هذا الحلف أكثر عدائية، ووحّد صفوفه، وحسّن أسلحته، وبات على مسافة أقرب من روسيا.

على صعيد آخر، فشلت حرب بوتين في تحقيق هدف آخر من أهدافها المعلنة: منع أوكرانيا من الانضمام إلى محور الغرب والسعي للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. حتى أن جهود بوتين في العقد الماضي كانت كفيلة بدفع الأوكرانيين إلى التقرّب من الغرب.

ففي ديسمبر 2012، كشف استطلاع أجرته «مؤسسة المبادرات الديمقراطية» في كييف أن 15% من الأوكرانيين فقط يؤيدون الانضمام إلى حلف الناتو، لكن بحلول يناير 2022، قبيل الحرب المستجدة، ارتفعت تلك النسبة إلى 64%، وفق استطلاع أجراه «المعهد الأوكراني للمستقبل»، ولا شك في أنها ارتفعت بدرجة إضافية منذ بدء الغزو.

كذلك، سُمِح لأوكرانيا ببدء الإجراءات الرسمية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسبب الحرب الأخيرة. حتى أن هذه الحرب زادت رغبة أوكرانيا في الانتساب إلى الاتحاد وقد تسمح للبلد بالتعامل أخيراً مع مشكلة استفحال الفساد التي منعت الغرب من ضم أوكرانيا إليه سابقاً.

وقال بوتين أيضاً إن الحرب تهدف إلى «نزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازية منها»، من الواضح أن الهدف الأول فشل لأن الأسلحة تتدفق إلى البلد حتى اليوم، وإذا كان اجتثاث النازية مرادفاً لإنشاء نظام خانع، أو توسيع نطاق النفوذ الروسي، أو تدمير الديموقراطية في أوكرانيا كما يقول البعض، يعني ذلك أن الفشل الروسي كان مطلقاً، نتيجةً لذلك، قد تدوم مشاعر الكراهية والعدائية تجاه روسيا عقوداً طويلة.

كذلك، أعلن بوتين أنه يريد إنقاذ الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا وحمايتهم، وتعليقاً على الموضوع، صرّح مصدر مطّلع لمجلة «نيوزويك»: «يستحيل إقناع أصحاب السلطة في موسكو بأن الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا لا يتعرضون للتمييز، أو أن الناس قد يحملون هوية وطنية مختلفة عن هويتهم اللغوية».

ورحّب بعض الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا بالغزو الروسي، لكن انحاز معظمهم لأوكرانيا ويُفترض أن تبذل الحكومة في كييف جهوداً مضاعفة احتفالاً بهذا الموقف، وسيتابع الأوكرانيون الناطقون باللغة الروسية تقديم مساهماتهم لبلدهم إذاً، علماً أن استعمال الروسية، لغة المحتل المكروه، قد يتابع تلاشيه تزامناً مع تقرّب البلد من الغرب.

فلاديمير الأحمق

خلال الأزمة التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا في عام 2014، تفاخر بوتين بامتلاكه «1.2 مليون جندي مسلّح وأكثر الأسلحة تطوراً في العالم»، وقال إنهم «قد يصلون إلى كييف خلال يومين» إذا أمرهم بذلك، ثم حرص بوتين على تدعيم جيشه في السنوات اللاحقة. إذا كان أحد أهداف الحرب الراهنة يتعلق باستعراض قوة الجيش الروسي وفاعليته، فنحن أمام فشل آخر.

فقد تصدى المدافعون الأوكرانيون، رغم قلة تدريباتهم ومعداتهم، للجيش الروسي الفاسد والمُحبَط الذي يفتقر إلى القيادة الحكيمة وسرعان ما انسحب من كييف. في المقابل، تحققت جميع المكاسب الروسية في جنوب شرق أوكرانيا عبر قصف المنطقة من بعيد ثم السيطرة على الأنقاض المهجورة.

لهذه الأسباب كلها، من المستبعد أن تستوحي دول أخرى تحركاتها من الكارثة التي سبّبها بوتين لنفسه.

ودائماً عبّر بوتين عن إعجابه بالقائد الروسي بيتر العظيم، وهو يرغب على ما يبدو في تكرار نسخة من حُكْمه الإمبريالي.

لكن لن يعطي التاريخ «القيصر» الروسي الراهن لقب «فلاديمير العظيم» بل «فلاديمير الأحمق». حتى أن حربه الفاشلة ونتائجها العكسية لن تطلق حقبة جديدة من الحروب بين الدول، بل إن جنونه سيجعل الحكّام الآخرين أكثر حذراً وتحفظاً ويُمهّد لاستمرار ظاهرة تراجع الحروب الدولية.

* جون مولير

Foreign Affairs

العالم ردّ على غزو بوتين لأوكرانيا بالقدر نفسه من الاشمئزاز مثلما تعامل مع استيلاء صدام حسين على الكويت عام 1990
back to top