عتق رقبة «ديبورا باري»

نشر في 12-08-2022
آخر تحديث 12-08-2022 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي هنالك نفر من بين ظهرانينا لا يقلع عن تلك السيرة المملة في جلد الذات والعيب في جل ما تمخض عنه موروث العرب والإسلام فوق هذه البقعة من العالم. لا يكف هؤلاء عن تفحص أنفسهم في مرآة للغير لم تصنع لهم. بل وحتى حين يتبين لهم خطل رأيهم، فلا يكون ذلك سببا في عودة إلى الحق ومثابة إلى الرشد. كلا بل إنهم ينقلبون على ما كانوا يناكفون قومهم به: حالة محيرة أقرب ما لها أن يفتي بها المختصون في علم النفس والسلوك.

خذ على سبيل المثل ردح هؤلاء حول شرع القصاص بحق القاتل العمد ورميهم للدولة المقننة لذلك بالوحشية ومنافاة المدنية، قد يطربهم أنهم بذلك يجارون ما يسود عموم العالم الغربي من إبطال لتلك العقوبة. ومثل هذا الرأي الذي يجرد القضاء الجنائي من أكثر أحكامه ردعا، أقول مثل هذا الرأي قد يقبل جدلا. أما حين يتكشف لهذا النفر أن موروث الإسلام وعادة العرب في التضامن يهيئان آلية لتحييد تلك العقوبة السالبة للحياة - وهي سمة تقدمية لعل أولئك لم يعرفوها إلا بعد انتشار تقنيات التواصل الحديثة، ما يعري مدى جهلهم بشرائع الإسلام وعادات العرب فوق جزيرتهم - أقول حين يتكشف ذلك، هنا تضيق صدورهم، فمثل هذا لا يطربهم، فتجدهم في هذه الحال يجدون في المطالبة بإزهاق الروح.

مثل هذه الآلية الفريدة للاحتيال على عقوبة الإعدام وإحياء النفس ليست بالمناسبة مقصورة على الجناة من العرب أو المسلمين بل قد يفيد منها العجم وأتباع الملل الأخرى، ويفيد كذلك أدهى دعاة الليبرالية والمنافحين عن حقوق الإنسان. أسوق الحادثة التالية لما بها من عبر. في شتاء 1996 شهد سكن ممرضات مجمع الملك فهد الطبي في الظهران جريمة قتل نكراء، ففي ليلة احتفال قبيل أعياد الميلاد قضت الأسترالية إيفون جلفورد طعنا وخنقا على أيدي زميلتيها البريطانيتين. لم تكن هناك صعوبة أو تعقيد أمام النيابة السعودية في كشف ملابسات الجريمة، سيما بعد اعتراف الجانيتين وضبطهما قبل ذلك تستخدمان بطاقة مصرفية تعود إلى الأسترالية المغدورة، فكان أن صدرت أحكام بالقصاص على ديبورا باري، والسجن ثمانية أعوام وخمسمئة جلدة بحق شريكتها لوسيل ماكلافلن.

وكما قلنا فرحمة تلك الآلية الشرعية ليست حكرا على أبنائها، وليس سواها كان بمثابة القشة التي جنبت ديبورا النصرانية أن تكون أول أوروبية يقتص منها علنا فوق جزيرة العرب. أمكن ذلك عقب تنازل فرانك جلفورد، شقيق القتيلة وولي الدم، عن حقه في القصاص.

وهنا لا بد من إتمام الرواية ببعض الحقائق: كان عتق الرقبة نظير مبلغ ناهز المليون دولار، ساهمت أكثر من جهة في جمعه، على رأسها الشركة البريطانية العريقة في صناعات التسلح والفضاء، الأغرب من ذلك، وبعد أن بات السجن العقوبة الوحيدة للجناة، ما يستقيم والأحكام في العالم الغربي، الأغرب أن جهدت السلطات البريطانية لإطلاق سراح الممرضتين حتى تسنى ذلك بعفو ملكي بعد سعي متكرر من قبل رئيس الوزراء آنذاك توني بلير. أما ما هو أعجب من كل ذلك فكان أن استأنفت كلتا الجانيتين عملهما كممرضتين في مشافي المملكة المتحدة دون اعتراض من سلطات، أو أرباب مهنة أو أدعياء حقوق إنسان أو أي من كان.

د. محمد بن عصّام السبيعي

back to top