القومية إرث شينزو آبي الأكثر خطورة

نشر في 22-07-2022
آخر تحديث 22-07-2022 | 00:05
استفاد «الحزب الليبرالي الديموقراطي» الذي كان ينتمي إليه شينزو آبي، قبل اغتياله، فحقق انتصاراً ساحقاً في انتخابات مجلس الشيوخ الياباني في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وكسب بذلك الأغلبية المطلقة التي يحتاج إليها لمراجعة «دستور السلام»، وهو المشروع الذي كان آبي يحلم به طوال حياته.
كان شينزو آبي سياسياً مهماً على الساحة العالمية وشخصية صنعت التاريخ، فهو صاحب أطول عهد كرئيس وزراء اليابان وقد غيّر وجهة بلدٍ تائه اقتصادياً منذ منتصف التسعينيات، فلا مفر من التعاطف معه أيضاً بسبب طريقة موته الصادمة، فقد اغتاله بحّار ياباني سابق بسلاح منزلي الصنع.

لكن حتى قبل موت آبي، لطالما قوبلت نزعته إلى تحريف التاريخ بمحاولات التستر أو تم التعامل معها بطريقة مختلفة عن النزعات القومية المتشددة في أماكن أخرى. يُعتبر فيكتور أوربان في المجر ورجب طيب إردوغان في تركيا نموذجين للتراجع الديموقراطي دوماً، وحتى الشخصيات التي كادت تُحقق نجاحاً كبيراً، مثل المرشّح للرئاسة الفرنسية إريك زمور، أنتجت عناوين أخبار سلبية حول العالم.

تتعلق أكبر أزمة دولية اليوم بغزو روسيا لأوكرانيا، علماً أن هذه العملية تنجم في معظمها عن الأوهام الإمبريالية التي يحملها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة بلده إلى مجده الغابر.

تتمتع اليابان بحضور دولي أكبر من المجر أو تركيا، وعلى عكس زمور، فاز آبي في الانتخابات في مناسبات متكررة، ولم يهاجم الديموقراطية اليابانية مباشرةً ولا يستحق وضعه في الخانة نفسها مع بوتين (أو أوربان أو إردوغان أو زمور)، لكن لم تكن نزعته القومية التحريفية تخفى على أحد.

كان آبي حفيد نوبوسوكه كيشي، وهو مهندس أساسي للدولة العميلة في عصر الإمبراطورية اليابانية في «منشوريا»، ويُشتبَه بأنه كان مجرم حرب من الطراز الرفيع (ثم أصبح من أهم رؤساء الوزراء في اليابان بعد حقبة الحرب). اعترف آبي يوماً بأنه «مُتعلّق عاطفياً» بمعسكر المحافظين لأنه يشعر بأن جدّه لم يستحق صفة المجرم، وقد اشتهر آبي، حين كان مشرّعاً مبتدئاً، بمهاجمة كتب التاريخ اليابانية باعتبارها «انهزامية»، وعندما أصبح رئيس وزراء اليابان، تبنى مقاربة الاستبداد «الناعم» ودان المجتمع الدولي زيارته لضريح «ياسوكوني» المثير للجدل كونه يكرّم قتلى الحرب اليابانية، بما في ذلك مجرمو الحرب، حتى أنه أنكر أعمالاً وحشية مرتبطة بعهد الإمبراطورية اليابانية، مثل الاستعباد الجنسي للنساء في البلدان المحتلة ومذبحة «نانجينغ».

لكن التحليلات الأنغلوفونية لمسيرة آبي تتغاضى عن هذه الوقائع دوماً، وحين تخضع هذه المسائل لنقاش حقيقي، يتعامل معها المحللون وكأنها لحظة عابرة من سوء التقدير في مسيرة جديرة بالثناء ومبنية على سياسة اقتصادية صلبة وتوسيع مشاركة المرأة في سوق العمل. في حالات أخرى، يستخف البعض بالطابع السام لنزعة آبي إلى تحريف التاريخ، فتُعتبر وجهته رغبة عامة في تقوية مكانة اليابان أو رداً على صعود الصين غير الليبرالية.

لكنّ أقوال آبي وأفعاله تنسف محاولات الاستخفاف برغبته في إعادة اليابان إلى العصر الذهبي (من وجهة نظره) قبل عام 1945، أي قبيل خسارة البلد المهينة في الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تخسر اليابان قدرتها على الاستعباد والاستعمار، على غرار القوى العالمية الأخرى، بموجب «دستور السلام». تؤكد أهم مراحل حياة آبي ارتباط قضيته السياسية الكبرى بإعادة اليابان إلى مجدها السابق، ما يعني أن كل ما فعله كان يهدف إلى تحقيق هذه الغاية.

كانت نزعة آبي إلى تحريف التاريخ كفيلة بإضعاف الرد الياباني على صعود الصين غير الليبرالية، وكانت اليابان قادرة على مواجهة إرثها الإمبريالي القاتم بصدق وتقوية علاقاتها مع الديموقراطيات الأخرى في منطقتها، كما فعلت ألمانيا حين اعترفت بماضيها النازي وشاركت في نهاية المطاف في تأسيس الاتحاد الأوروبي إلى جانب خصومها السابقين في حقبة الحرب العالمية الثانية، لكن خطوات آبي أثبتت مراراً أن أولوياته مختلفة، وحين اضطر للاختيار بين تحريف التاريخ والاقتصاد الياباني، أو التصدي للصين، أو حقوق المرأة، أو أي واحدة من فضائله المزعومة، كان يفضّل نزعته التحريفية دوماً، فيزيد بذلك الخلافات بين اليابان والديموقراطيات المجاورة مثل كوريا الجنوبية.

أشاد الكثيرون بآبي باعتباره «واحداً من أبرز داعمي سياسة التعاون الدولي في عصره» ومدافعاً قوياً عن الديموقراطية، لكنه لم يأخذ عناء بناء الجسور مع أقرب جارة ديموقراطية لليابان إذا كانت كلفة هذه المبادرة تفرض عليه الاعتراف بأن الإمبراطورية اليابانية أخطأت حين أقدمت على غزو كوريا واستعمارها.

حصد آبي الإشادة أيضاً بسبب دعمه للتجارة الحرة، مع أنه أبدى استعداده للدفاع عن أعمال السخرة والاستعباد على يد الإمبراطورية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، فأطلق بذلك حرباً تجارية متهورة لإخضاع قطاع أشباه الموصلات في كوريا الجنوبية، وهو مجال محوري في سلاسل الإمدادات العالمية.

على صعيد آخر، لم يمانع آبي، داعم حقوق المرأة المزعوم، ما أصاب مئات آلاف النساء اللواتي تعرّضن للخطف والاستعباد الجنسي في محطات الاغتصاب التابعة للجيش الياباني الإمبريالي.

رغم بعض الاستثناءات البارزة، يبدو امتناع المعلّقين الأميركيين عن الاعتراف بهذه الوقائع مثيراً للقلق. خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، كانت واحدة من أكثر السياسات الأميركية المخزية تتعلق بدعمها الدائم لحكام مستبدين يمينيين حول العالم، فتفضّل الاستفادة منهم على تطبيق سياسة خارجية مبنية على قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وجزء من هذه النزعة ينعكس في التغافل عن دوافع آبي إلى تفضيل النفعية على القيم أيضاً. يحتاج العالم الحرّ إلى اليابان القوية للتصدي للصين، لكنّ تبييض صفحة الإمبراطورية اليابانية يُضعِف هذا الهدف.

في هذا السياق، تقول المؤرخة ألكسيس دادن إن موقف آبي تجاه واشنطن كان متناقضاً: عندما سعى إلى تقريب اليابان من الولايات المتحدة بطريقة عملية، لطالما كان هدفه النهائي معادياً للولايات المتحدة ويقضي بإزالة القيود التي فرضتها واشنطن على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.

كان آبي من أقوى رجال الدولة لأنه نجح في التقدّم رغم هذه المفارقة، وبفضل براعته في السيطرة على علاقاته مع القادة الأميركيين، ومن خلال الإدلاء بالتصريحات المناسبة أمام الصحافة الدولية والتعبير عن مواقف المختلفة أمام الرأي العام المحلي وعدم المبالغة في الكشف عن طموحاته، تمكن من إنشاء الدينامية التي دفعت القادة الأميركيين إلى التغاضي عن أجندته التحريفية، ولا تزال هذه الدينامية قائمة بعد موته.

لكن إلى متى ستبقى اليابان عالقة في هذه المفارقة بعد رحيل آبي؟ استفاد «الحزب الليبرالي الديموقراطي» الذي كان ينتمي إليه، من موته، فحقق انتصاراً ساحقاً في انتخابات مجلس الشيوخ الياباني في عطلة نهاية الأسبوع الماضي وكسب بذلك الأغلبية المطلقة التي يحتاج إليها لمراجعة «دستور السلام»، وهو المشروع الذي كان آبي يحلم به طوال حياته. إذا تحقق هذا الهدف، فلن تعارضه الولايات المتحدة على الأرجح لأنها تحبّذ تحرّر اليابان من القيود العسكرية للتصدي للصين.

لن يكون آبي موجوداً لقيادة اليابان بعد استرجاع قدرتها على شن الحروب، بل تقع هذه المهمة على عاتق مجموعة من السياسيين اليمينيين من المعسكر القومي المتطرف مثله، لكن لن يتحلى هذا الفريق بالقدر نفسه من الصبر أو الحذر، بما في ذلك ساناي تاكايشي التي حلّت في المرتبة الثالثة في الانتخابات التي أنتجت رئيس الوزراء الحالي، فوميو كيشيدا.

قال رجل الدولة الأميركي، هنري كسنجر، يوماً إن الولايات المتحدة لا أصدقاء أو أعداء دائمين لها، بل تحكمها المصالح، وفي مرحلة معينة، قد يفكر قادة اليابان بالطريقة نفسها بعد اكتسابهم الاستقلالية اللازمة لتطبيق الأجندة التي يريدونها.

* س. ناثان بارك

Foreign Policy

حين كان آبي مشرّعاً مبتدئاً اشتهر بمهاجمة كتب التاريخ اليابانية باعتبارها انهزامية وعندما أصبح رئيساً للوزراء تبنى مقاربة الاستبداد «الناعم»

آبي أنكر أعمالاً وحشية مرتبطة بعهد الإمبراطورية اليابانية مثل الاستعباد الجنسي للنساء في البلدان المحتلة ومذبحة «نانجينغ»
back to top