سريلانكا ضحية… للإدارة الجينية!

• عائلة راجابكسا رهنت البلاد للديون والإنفاق الضخم على مشاريع غير مجدية
• الفساد وسوء الإدارة أوديا بجمهورية حالها أفضل من معظم دول جنوب آسيا إلى التدهور

نشر في 14-07-2022
آخر تحديث 14-07-2022 | 00:06
محمد البغلي
محمد البغلي
برزت جمهورية سريلانكا على خريطة الأحداث خلال الأسبوع الماضي، بعدما اقتحم محتجون القصر الرئاسي في العاصمة كولومبو، وأجبروا رئيس الجمهورية وقيادات الحكومة على الاستقالة والفرار من البلاد، في مشهد توج نهاية حقبة عانت فيها سريلانكا، خصوصاً في العامين الأخيرين، أزمة اقتصادية طاحنة لم تشهدها منذ استقلالها عام 1948.

وبلمحة سريعة، فإن هذا البلد الواقع في جنوب آسيا، والبالغ عدد سكانه 22 مليون نسمة، شهد خلال الأشهر الماضية احتجاجات متصاعدة، في ظل انهيار اقتصادي غير مسبوق، وارتفاع حاد في التضخم إلى نحو 55 في المئة، وفقد العديد من السلع الضرورية كالوقود والأدوية والأغذية، وانقطاعات التيار الكهربائي، بالتوازي مع تصاعد الديون، وتدهور العائدات المالية، لاسيما السياحة والزراعة، فضلاً عن انخفاض احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، وسط تحذير الأمم المتحدة من أن سريلانكا تواجه خطر أزمة إنسانية كبيرة، بعدما اضطرّ أكثر من ثلاثة أرباع السكان إلى تقليص نظامهم الغذائي.

وفي الحقيقة، فإن سريلانكا لم تكن يوماً بهذا الحال الاقتصادي البائس، بل إن مستوى المعيشة فيها أفضل من العديد من دول جنوب آسيا، وجنوب شرق القارة، فاقتصاد البلاد شهد مطلع الألفية الحالية نمواً لافتاً مع تعافي الطلب المحلي على الموارد الزراعية، وزيادة في السياح الوافدين، ونهضة بسوق الأوراق المالية، وزيادة في الاستثمار الأجنبي المباشر مع نمو اقتصادي ناهز 4 في المئة سنوياً مدعوماً بالقطاعات الخدمية، عندها استطاعات سريلانكا البدء في برنامج لتقليص نسبة الفقر في البلاد من ربع عدد السكان إلى أقل من 10 في المئة بحلول عام 2006.

وحسب بيانات البنك الدولي، شَهِدَت سريلانكا رواجاً اقتصادياً بنمو سنوي بحدود 6 في المئة منذ 2003 حتى 2012، وهو معدل أعلى من الدول المجاورة، مما جعلها ثاني أغنى دولة في منطقة جنوب آسيا، بعد جزر المالديف، مدعومة بعوائد القطاعات الاقتصادية الرئيسية للبلاد، وهي السياحة وإنتاج الشاي والملابس والأرز والمنتجات الزراعية الأخرى، فضلاً عن تحويلات العاملين في الخارج، غير أن هذا النمو الاقتصادي لم يدم طويلاً، ليس لمحدودية الموارد أو تباطؤ الطلب، إنما لدخول سريلانكا، وهي ذات نظام جمهوري، عهد حكم وسلطة الجينات الوراثية التي سيطرت على البلاد منذ تولي عائلة راجابكسا عام 2005 الحكم لدرجة احتكرت فيها هذه العائلة، على مدى السنوات الماضية، مناصب رئاسة البلاد، ورئاسة الوزراء، ووزارات المالية، والزراعة، والدفاع، وغيرها، بل سيطر أطراف من نفس العائلة على التجارة والقطاع الخاص في البلاد.

واتجهت حكومات عائلة راجابكسا نحو سياسات تضمن أمرين أساسيين: الأول تطويع المؤسسات لضمان استمرارية العائلة في حكم البلاد، فطوعت المؤسسات السياسية والاقتصادية في البلاد لمصلحة استمرارية الحكم في البلاد، والثاني الحصول على أكبر حصة ممكنة من موارد البلاد عبر صفقات مشبوهة، وديون صعبة السداد.

لقد شهدت سريلانكا، خلال السنوات الماضية، إنفاقاً ضخماً على مشاريع لا تحقق عوائد اقتصادية أو مالية، معظمها في البنية التحتية للبلاد كالموانئ والمطارات والطرق، مع تنامي شبهات التحايل والفساد في هذه المشاريع، إلى جانب صدور قوانين بإعفاءات ضريبية حادة لامتصاص الغضب الشعبي من إخفاقات حكومات عائلة راجابكسا من جهة، وللحصول على عمولات غير قانونية من الشركات، لاسيما الأجنبية المستفيدة من خفض نسب الضريبة عليها، منجهة أخرى، كما أدى قرار حظر استيراد الأسمدة بعد استنزاف البلاد احتياطيات العملة الأجنبية إلى كساد الإنتاج الزراعي، خصوصاً إنتاج الشاي، مما أدى إلى ندرة لافتة، وارتفاع قياسي في أسعار المواد الغذائية.

وقد رافق هذه السياسات التوسع في الاقتراض، والاستدانة دون حصول أن يكون استخدامها الأموال المتأتية منها في مجالات تضمن تحقّق العوائد الاقتصادية المفيدة للبلاد أو لمصلحة استدامتها، وحسب بيانات عام 2021 بلغ حجم الدين السيادي لسريلانكا 51 مليار دولار، مطلوب سداد 28 ملياراً بحلول 2027، بمتوسط بما بين 5 إلى 6 مليارات سنوياً، فيما لا يتجاوز المتوافر في الخزينة السيرلانكية حالياً أكثر من 50 مليوناً فقط.

وساهمت عوامل ضغطت على قطاع السياحة، الذي يشكل نحو 20 في المئة من الناتج المحلي لاقتصاد سريلانكا، كهجمات العنف في 2019، إلى جانب تداعيات فيروس «كورونا» على النشاط السياحي، فضلاً عن تحويلات العاملين في الخارج، إلى انكشاف حكومات عائلة راجابكسا أمام الأزمة، فلم تكن لديها الكثير من الخيارات لمعالجتها، بعد أن وقعت البلاد في شرك الفساد، وسوء الإدارة، وتصاعد الديون، فدخلت في دهاليز البطالة، وتنامي مؤشرات الفقر مجدداً، والتضخم المتصاعد، وفقدان السلع الضرورية والشلل التام في لأوجه النشاط الاقتصادي، وهي الدولة التي كانت مطلع الألفية واحدة من المرشحين لدخول نادي النمور الآسيوية.

في الحقيقة، يصعب أخذ سريلانكا نموذجاً أو مثالاً يصلح للقياس على الكويت أو دول الخليج، لاختلاف أنظمة الحكم أو حتى الاقتصادات، لكن بلاشك ان تعويل سريلانكا على تركز أعمال إدارة الدولة في عائلة واحدة بين مدى مخاطر تعويل دول المنطقة، لاسيما الكويت على العوامل الجينية لا الكفاءة في تسيير شؤون الإدارة، وهو أمر ربما يفضي إلى أزمات تكون حلوها مرتكزة على استمرارية إدارة الجينات بغض النظر عن كفاءتها.

* محمد البغلي

الدين السيادي لسريلانكا 51 مليار دولار مطلوب سداد 28 ملياراً منها بحلول 2027 بينما لا يتجاوز المتوافر في الخزينة حالياً 50 مليوناً

تعويل سريلانكا على تركز أعمال إدارة الدولة في عائلة واحدة أظهر مدى مخاطر الرهان على العوامل الجينية لا الكفاءة

سرعان ما انكشفت حكومات عائلة راجابكسا أمام هجمات عنف 2019 وتداعيات «كورونا»
back to top