أما بعد

نشر في 28-06-2022
آخر تحديث 28-06-2022 | 00:10
إن أردنا فعلاً تحقيق التغيير بمعاونة القيادة السياسية فذلك لن يكون إلا إذا أعدنا تصميم نظامنا الاقتصادي والاجتماعي، فما كان سبباً في ديمومة الدولة واستقرارها في مرحلة ما قبل النفط هو التوازن بين إشراف الدولة وابتكار القطاع الخاص ومهارات المواطن الكويتي.
 د. ناصر بدر المجيبل جاء خطاب صاحب السمو والذي كلف به سمو ولي العهد، حفظهما الله، الأسبوع المنصرم في وقت بلغ في الناس قبل السياسيين مبلغاً عظيماً من الإحباط وانحسار الثقة في الدولة ومؤسساتها، وأدى بدوره إلى انهيار في منظومة القيم والأخلاقيات والمبادئ التي كنا نتمتع بها أو نطمح في الوصول إليها. جاء هذا الخطاب التاريخي في وقت مفاجئ وفي مضامين مفاجئة، وكأن من كتبه وألقاه يعيش معنا، في ضمائرنا المتألمة، في منازلنا المستأجرة، في مدارسنا المتردية، في شوارعنا المتهالكة، في وزاراتنا المهلهلة، في فساد مؤسساتنا الذي ينخر جيوبنا، يعيش معنا في واقعنا المؤلم وأحلامنا اليائسة، جاء هذا الخطاء معبراً عن آمالنا ليس في التغيير الذي وعد به فقط، بل في روحه ووضوحه بأن ما كان سائداً لن يسود مجدداً.

وبعد أن هدأت النفوس من نشوة الفرح واستعادت شيئا من الأمل، بدأت التفكير في البداية، من أين نبدأ؟ وما التحديات؟ وكيف نحافظ على تلك الروح الجديدة؟ وكيف نقاوم مقاومة التغيير القادمة لا محالة؟ ولعلي ألخص بعض الأفكار في النقاط التالية:

أولاً: التحديات السياسية

خطاب سمو ولي العهد كان واضحاً وجلياً في معانيه: الشعب وحده مسؤول عن اختياراته البرلمانية، والنواب مسؤولون عن البرلمان ولجانه وسلوكهم السياسي مع الحكومة، وهذه المسؤولية تحت رقابة سموه، هذا مبدأ رائع، يعيد الكويت لدولة المؤسسات الحقيقية ويعيد للبرلمان دوره الرقابي والتشريعي، لكن التحدي الحقيقي ليس في حسن اختيارات الناس فقط، ففي أسوأ الأحوال هناك غالبية برلمانية جيدة (إن لم يفسدها فاسد)، الإشكال الحقيقي الذي يواجه العملية السياسية هو في عدم وجود برامج سياسية يختار الناس مرشحيهم بناءً عليها ومحاسبتهم على تنفيذها، فالعمل الفردي نتيجته الحتمية الشعارات لا البرامج، فالكتل سياسة يمكن التنسيق معها بشكل واضح وعلني، وأعني تحديداً أغلبية برلمانية داعمة لبرنامج عمل الحكومة، وهذا إن تحقق في الفصل التشريعي القادم فإن من المحال أن يستمر هذا الاتزان للأسباب التالية:

1- البرنامج الإصلاحي: برنامج عمل الحكومة يعتمد بشكل كبير على برامج إصلاحية جذرية بحاجة لقبول شعبي، لا يعني ذلك أنها برامج تمس معيشة المواطن أبداً لكنها تنطوي على تغيير في سلوك الدولة والمواطن اقتصادياً وسياسياً وغيرها. وهذا يعني بالضرورة تأثر 91 في المئة من القوى العاملة في الدولة بتلك التغييرات، وبوجود 91 في المئة من العاملين في الكويت كموظفين عند الحكومة بلا شك فإن دور البرلمان الحقيقي أصبح وسيستمر كنقابة للعاملين في أجهزة الدولة إلا إذا كان البرلمان والحكومة يشكلان أغلبية حقيقية معلنة ومتفقة في برامجها السياسية والاقتصادية لتكون تلك الكتل مصداً سياسياً لا انتهازياً وبوابة الدخول للرأي العام.

2- العمل المنظم: في ظل عدم وجود كتل برلمانية منظمة، سيسود العمل الفردي، والذي لا يمكن لنائب أن يتميز عن 49 نائباً غيره إلا بالخروج عما هو سائد، فنجد الصوت الطائفي المتطرف، والعنصري الفئوي، والمبتز المستفيد، وغيرها. عندها سيجد النائب المتزن نفسه بين سندان اللحاق بركب الفوضى الصوتية، أو الانسحاب والاعتزال.

3- الدوائر الانتخابية والقوائم النسبية: لم يعد من الملائم عزل الكويتيين في مناطقهم الجغرافية الضيقة، كذلك لم يعد من الملائم إلا الانتقال للقوائم النسبية، فالشيعي لن ينجح لوحده، والسني كذلك، والقبلي لن ينجح إلا بوجود ممثل لكتل تجارية، هكذا تتشكل قوائم متنوعة متزنة قائمة على برامج عمل لا أجندات أفراد.

4- الخطر الأمني الاستراتيجي: هل سيقف معنا العالم مجدداً لو أصبح النفط مثل الفحم؟ دولة تحاط بدول كبرى لديها مشاريعها السياسية والاقتصادية، فكيف نحافظ على السيادة والاستقرار والحماية الداخلية والخارجية؟ طوال تاريخ الكويت كانت المخاطر الحقيقية التي تهدد وجودها دائماً ما كانت تأتي من الخارج، أما ما في الداخل فهو مناوشات للتسلية السياسية لا خطر وجودي، وإن كان لها أضرارها فعلاً على المدى البعيد.

أعتقد أن الكويت بعد خطاب سمو ولي العهد شبيهة بالكويت فيما بعد التحرير بل أسوأ حالاً، موازنة عامة مدمرة، اقتصاد هش أحادي المصدر، انهيار في التعليم والبنى التحتية، انهيار في المؤسسات، انعدام في الثقة بين الشعب ومكوناته والشعب وسلطاته.

ثانياً: التحديات التنفيذية

وأعني هنا تحديات السلطة التنفيذية في اكتساب ثقة المجتمع بشكل مباشر وهذا يتطلب وجود ثلاثة عناصر رئيسة:

1- الكفاءة: ما دام اختيار المسؤولين ابتداءً من الوزراء حتى أسفل السلم لا يبنى على الكفاءة فلننسَ تماماً القدرة على اكتساب احترام وثقة الرأي العام.

2- النزاهة: أي شك في نزاهة القائمين على السلطة التنفيذية أو عدالة الأنظمة المتبعة ستكون تبعاته مدمرة على ثقة الرأي العام.

3- القدرة: سمعنا كثيراً عن مسؤولين أكفاء لكن شكواهم الدائمة هي «عدم وجود قرار في التغيير» أو عدم وجود دعم سياسي لخطواتهم الإصلاحية، وهذا يعني عدم قدرة المسؤول أياً كان منصبه في المضي في برنامج إصلاحي وبالتالي ستتكرر الحالة التاريخية الكويتية الشهيرة (الشيخ يشتكي، والمسؤول يشتكي، والتاجر يشتكي، والمواطن يشتكي ولا أحد قادر على فعل شيء).

فإلقاء اللوم كاملاً على سوء أداء البرلمان ليس أمراً دقيقاً وإن صح، فالبرلمان يشكل انعكاساً لحالة الرأي العام لا صانعاً للرأي العام في كثير من حالاته، ورسالتي للقادمين إلى سدة المناصب التنفيذية: ضع خطة واضحة، أقنع الناس وأشركهم كمواطنين ولا تسوقها لهم كمستهلكين، وكن قائداً ليتبعك الناس.

لقد حان الوقت ليس للعودة كما كنا، بل للتفكير في قفزات جديدة لنصنع من الكويت بقعة استثنائية كما كانت، بقعة صغيرة لكن تفوق في قوتها كبرى الدول حجماً، بقعة صغيرة لكنها عمق اقتصادي وسياسي وأمني للمنطقة والعالم، حان الوقت لنقول هذا كافٍ، وأننا بحاجة لنظام سياسي مبتكر وسلوك سياسي جديد، وأننا بحاجة إلى إعادة النظر في كثير من القضايا المسكوت عنها، فلا يمكننا الاستمرار في تجاهل أمراضنا، وسنرتكب في سبيل تحقيق ذلك الكثير من الأخطاء، لا بأس ما دمنا نعمل ونصحح أخطاءنا بشكل شفاف.

رسالتي الأخيرة لشركائي في الوطن، سنوات ونحن نطلب الأمل، وها هي اليد قد مُدت إلينا، ومع كثرة الأزمات اليومية قد ينسى البعض حقائق مهمة عن هذا الوطن أحب دائماً أن أذكر بها، ربما ينبهنا ما سأكتب عن الماضي وعن المستقبل، نحن من أقدم الدول التي تأسست في المنطقة قبل 409 سنين، بأسرة حكم واحدة، واستقلال في القرار ورخاء وثراء، نحن من أسخن بقاع العالم، لا ماء ولا زرع، ولا موارد طبيعية، ومع ذلك صنع أجدادكم من هذه البقعة مصدراً للنشاط والتجارة، فهاجر لها من كانت أرضه خصبة، وفيها الماء والموارد، نحن من أرض صغيرة لم يستطع أحد يوماً من الأيام ابتلاعها مهما كبر حجمه، نحن من بلد التنوع في الثقافة والأعراق والأطياف مع ذلك عشنا في سِلم اجتماعي، نحن من بلد عظيم لكنه كان عظيماً بعقوله لا بموارده ولا ماله ولا حجمه، أقول قولي هذا، لأن المستقبل ليس بيد الدولة وحدها، بل بيدكم أنتم أحفاد من صنع لهذه الدولة قيمة ومكانة واستقراراً.

المستقبل

الفقرة السابقة تعني أننا إن أردنا فعلاً تحقيق التغيير بمعاونة القيادة السياسية فذلك لن يكون إلا إذا أعدنا تصميم نظامنا الاقتصادي والاجتماعي، فما كان سبباً في ديمومة الدولة واستقرارها في مرحلة ما قبل النفط هو في التوازن ما بين إشراف الدولة وابتكار القطاع الخاص ومهارات المواطن الكويتي، وفي المستقبل، يجب علينا نحن أن نعود لخلق وظائفنا كما كنا لا الدولة، نحن مصدر الثروة لا النفط، نحن من سيصنع التغيير لا السياسيون، نحن من سيعيد الكويت الدولة العظيمة مرة أخرى إلى قمتها، أما الدولة فدورها الحقيقي في خلق البنية التحتية المحفزة والسياسات المنظمة، التحدي الحقيقي في التحول من دولة الريع إلى دولة الرعاية.

ختاماً، كل تغيير لا يمس الإنسان لا قيمة له، فلنتمسك بالتسامح فنحن مجتمع لا يحتمل الكراهية، لنتمسك بمبادئنا ولو كلفتنا أحياناً بعض الثمن، ولا ننسى أن هذه الدنيا رحلة قصيرة وأعمارنا مؤقتة، فإما أن نترك أثراً يذكرنا فيه التاريخ، أو أن نعيش ونرحل دون تاريخ.

حفظ الله الكويت وشعبها ومحبيها والمخلصين لها من كل مكروه في ظل قيادتها الحكيمة.

د. ناصر بدر المجيبل

نحن من أسخن بقاع العالم فلا ماء ولا زرع ولا موارد طبيعية ومع ذلك صنع أجدادكم من هذه البقعة مصدراً للنشاط والتجارة
back to top