تركي ليس من الترك

نشر في 10-06-2022
آخر تحديث 10-06-2022 | 00:00
 د. محمد بن عصّام السبيعي لو سأل أحدهم عن مدلول اسم العلم «تركي» لربما نسب ذلك على عجل إلى الترك، شعب قدم من أواسط آسيا ويستوطن شبه جزيرة آسيا الصغرى، هكذا كما لو أن أسود ينسب إلى السويد في شمال أوروبا أو أن من يُدعى رواسا يعود في أصل التسمية إلى ديار الروس المترامية الأطراف، الحق أنه لا علاقة البتة للاسم بالترك إلا محض مصادفة لغوية يشيد عليها البعض ربطا ساذجا يلقى لسوء الحظ قبولا واسعا، فعهد الاسم حديث، لا يعود إلى أكثر من قرنين أو ثلاثة، هذا رغم معرفة العرب للترك منذ انطلاق الفتح الإسلامي، كما يكثر في التشكيلات القبلية البدوية في جزيرة العرب التي لا يعرف عنها اتصالا أو إعجابا بالأعاجم قد يغريهم باتخاذهم أسماء لذرياتهم، بل لا أخالني مغاليا لو قلت إن ذلك العهد قد تزامن مع عتو حكم الأتراك لديار العرب وضيق هؤلاء بأولئك، مما يستبعد معه أن يقوم العرب بتلك الاستعارة.

كلا، فتركي، بفتح التاء، من صميم لغة العرب ويجسد واحدة من أرقى الخصال الأخلاقية للفرد، وذلك يعود إلى فضيلة التَّرك أي الكف عن الفعل، ألا يجري على لسان البادية قولهم: «ما شأني وفعلان أو تركان»، أي من يفعل ومن لا يفعل، كما أن الياء المتطرفة ليست ياء نسبة، كما عربي نسبة إلى العرب، بل ياء وصف إن جاز التعبير نحو: سحمي، طرقي، حميدي وجلوي وغيرها.

وقد يجادل المرء في أي مكسب أخلاقي أو غيره يتحقق لمن يكف عن الفعل؟ يبدو هذا وجيها للوهلة الأولى غير أن ترك المرء لكثير من الأمور ليس فيه من الخسارة المادية غير المباشرة بقدر ما يتحقق مباشرة من فوائد غير مادية، أولها راحة البال وصفاء المزاج وذلك تمام صحة النفس والبدن وغاية المرام، فكثير مما يأتي أذاه على المرء لا يخرج في علته الأولى عن تعمده انشغالا بما لا ينبغي له أو أن يهم بما لا يعنيه، ولا يتبين ذلك إلا حين يبصر سوء منقلبه، فكم رأى المرء ما كره وسمع ما يضيق به الصدر لمجرد تدخله فيما لا يعنيه أو مباشرته لما ليس له.

وليس أقل من ذلك مغانم مادية جمة قد يحصلها المرء باعتياد ترك ما لا يعنيه، أولها الوفرة الملحوظة في الوقت، وهي لحظات من عمر الإنسان الفاني، فالوقت هنا أثمن من المال: فالمال بين غاد ورائح، بينما الوقت يذهب ولا يعود، وفي حين يشكو كثيرون شح ما لديهم من وقت، فما يتاح للمرء من وقت حال انصرافه عما ليس له يبدأ بالتزايد، ويصبح فائضا بعد ندرة، وفي السياق ذاته فإن ذلك قمين بتجنيبه أضرارا كان سيتكبدها لو فعل ما امتنع عنه، فكم تجشم أحدهم من خسائر في بيع وشراء ليس له به قبل وآخر من تجارة لا يفقهها.

لكل ذلك فتركي، أو من يدع ما ليس له بعيد عن كل ما يجر الخيبة والحزن والنفس اللوامة، وهو كذلك وافر المال والأجل، وسعيد بتسخير هذين الموردين الثمينين فيما يعنيه، وهنا لا يستغرب أن تتلخص إحدى أعظم الرسائل الأخلاقية للإسلام في ضرورة ترك المرء ما لا يعنيه إلى ما يعنيه، والذي وصف بحسب حديث نبوي بحسن إسلام المرء.

● د. محمد بن عصام السبيعي

back to top