الحوار العربي الأوروبي الثقافي (2)

نشر في 07-06-2022
آخر تحديث 07-06-2022 | 00:10
 د. سناء الحمود العجلان يتضح هنا أن القوانين المسيحية الأساسية في الترانيم الشعبية خضعت لتغييرات خطيرة، فالأغاني الشعبية تدعو إلى شيء لم يسبق أن دعا إليه الإنجيل نفسه، وكان أول رد فعل تجاه الإسلام في القرنين التاليين لعام 1100م، فالصورة التي كونها الغرب عن الإسلام والمسلمين كانت مشوهة جداً، وبذل المجادلون المسيحيون جهداً كبيراً في سعيهم تجاه تشويه الإسلام من خلال التقاط بعض الأحداث والبناء عليها بالباطل، فعلى سبيل المثال لاحظ نورمان دانيال، وهو عالم مسيحي، هذا الاتجاه لدى المجادل المسيحي: «كل ما كان منفراً جداً بالنسبة للمسيحي بدأ بالنسبة له أيضاً تقليدياً، وكان من السهل أيضاً وضع معايير يمكن بناء عليها التحقق من النبوة والتخلص من النبي محمد».

وتشير ميريديث في مقالتها «المسلمون التقليديون في قصائد أفعال الرومان»، إلى الاتجاه نفسه لدى شعراء العصور الوسطى، فهي تشعر بالدهشة نظراً لأن الشعراء كانوا دقيقين جداً في وصف الممارسات المسيحية في العصور الوسطى بينما، وفي الوقت نفسه، تبنوا طريقة خاطئة في تمثيل دين عدوهم، وتعتقد ميريديث أن مصدر هذا التشويه ينبع من حقيقة أن ذلك المفهوم الغربي لمحمد وتعاليمه قد جاء من مصادر أدبية أكثر مما جاء من ملاحظات فعلية للشعوب الإسلامية، وفي العادة كان الكتّاب (مثل ماثيو باريس) يعتمدون على مصادر غامضة أو غير مباشرة، والنتيجة هي مزيج من الحقائق الصغيرة والكثير من الخيال ذي الطابع المتحيز جداً.

وهناك كاتب آخر، جاك فيتري، الذي على الرغم من إدراكه لموقف المسلمين العادل تجاه المسيحية على النحو الذي حدده القرآن، يصر على أنه يجب أن يطلق على المسلمين الهراطقة لا أصحاب ديانة (لأن الإسلام كان بصورة عامة يعتبر نسخة فاسدة عن المسيحية)، ويواصل تكرار «الخرافات القديمة التي لا أساس لها والتي تم تداولها كحقيقة في أوروبا الغربية» نفسها، ويشير هذا الرأي إلى أنه حتى الأشخاص الأكثر اطلاعاً على الإسلام لم يكونوا مستعدين للتخلي عن آرائهم المسبقة أو أن يقدموا للمسيحيين موقفاً غير متحيز وعادل تجاه الإسلام.

تبنى شعراء وكتّاب العصور الوسطى موقفا ازدرائياً تجاه الإسلام والمسلمين، فدانوا كل ما اعتقد المسلمون أنه مقدس حتى لو كان معتقدهم يتماشى مع المسيحيين بدلاً من مناقضته، لم يكن مفهوم القرون الوسطى للإسلام والمسلمين قائماً على الجهل، مثلما يعتقد نورمان دانیال، حيث كانت هناك معلومات مباشرة متاحة في ذلك الوقت؛ إلا أنه لم تكن هناك رغبة أو محاولة حقيقية من جانب المسيحيين لفصل الدعاية عن الأسلوب الأكثر جدية لهذه العقيدة الجديدة.

كان يشار إلى المسلمين عادة باسم «الكفار» في الأغاني الشعبية للعصور الوسطى، التي عرفت بأغاني البطولة أو الملحميات، وكذلك في الأعمال الرومانسية والمسرحيات الغامضة، ويقصد بذلك أي فرد وثني، فقد جرى تقديم المسلم دائماً، كما تشير ميريديث جونز، على أنه «عدو غادر، وعلى استعداد في جميع الأوقات لإيذاء نفسه وخيانة الأمانة». وعلى الرغم من أن تاريخ الحروب الصليبية في الشرق يعرض العديد من الأحداث التاريخية التي احترم فيها المسلمون وعودهم أكثر من المسيحيين، تخبرنا جونز أن الصورة المشينة هي الصورة الشائعة، ويبدو أنه لم يكن لدى العقلية التي سادت في القرون الوسطى أي اعتبار للمنطق في ديانة معادية، ولم يكن هناك تمييز بين ما يمكن تصديقه وما لا يمكن تصديقه، فعلى سبيل المثال تصف الأغاني المسلمين بأنهم يمضون حياتهم في كره المسيح والسخرية منه وتدمير كنائسه؛ إنهم يكرهون الله ويضعون أنفسهم دائماً تحت وصاية الشيطان، فهم في خدمة الشيطان الذي يسيطر عليهم ويدافع عنهم، ويتم تقديمهم في كثير من الأحيان على أنهم وحوش آدمية؛ فكثير منهم عمالقة، وقبائل بأكملها لها قرون، والبعض الآخر أسود اللون مثل الشياطين، ويندفعون إلى المعركة ويصدرون أصواتاً مماثلة لنباح الكلاب، ويستخدمون العبيد، ويأكلون سجناءهم، ويشترون ويبيعون نساءهم ويمارسون تعدد الزوجات، وهذه الأمور هي ما فعله الآخرون في الواقع.

ويكمن السر في كل هذه «الألقاب المهينة»، كما تعتقد جونز، في أن المسلمين لم يؤمنوا بالمسيحية، وقد استاء المسيحيون من هذه الحقيقة.

وهناك فكرة خاطئة أخرى تم تداولها في الكتابات المسيحية وهي أن المسلمين يعبدون آلهة كثيرة، صحيح أن العرب كانوا وثنيين في العصر الجاهلي، ولكن بعد ظهور الإسلام هدم محمد جميع أشكال الوثنية، فمحمد إنسان وليس ملاكاً أو إلهاً، وقد أصر هو وصحابته على هذه الحقيقة.

والاعتقاد الخاطئ بأن أتباع محمد يعبدونه كإله فكرة خاطئة صيغت في الأصل خلال العصور الوسطى، تتعرض للتعاليم الأساسية للإسلام، وهي من المفارقات في الوقت نفسه، فكيف يمكن لمحمد، الذي تقوم رسالته على «لا إله إلا الله»، أن يصبح هو نفسه إلهاً ويطلب أن يُعبد؟ فقد أعلن أحد خلفاء النبي، الخليفة الأول أبو بكر، بعد وفاة محمد في 8 يونيو 632م، أن «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، وكدليل على زوال الإنسان بشكل عام ووفاة محمد بشكل خاص، يقتبس أبو بكر من القرآن: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ».

فالإسلام دين توحيد، يؤكد دومينيك سورديل، المستشرق الفرنسي، هذا الجانب الأساسي في الإسلام، حين يقول: «ظل الإسلام مخلصاً لرسالة لم يتوقف عن الدفاع عنها أبداً، رسالة تقوم على التوحيد، وهي الرسالة الثالثة التي فرضت نفسها بعد اليهودية والمسيحية، وأرادت في أحد الجوانب وفي الوقت ذاته أن تتبع هاتين الديانتين وأن تميز نفسها بوضوح عنهما، بينما تعترف جزئياً فقط بصلاحيتهما، فقد قيل بالفعل لنبي الإسلام أنه قد أدى بأمانة تلك الرسالة التي نزلت على إبراهيم من قبل، ولكن تم تحريف تلك الرسالة لاحقاً بفعل من نقلوها من بعده». وكانت هناك فكرة أخرى شاعت لدى المسيحية في العصور الوسطى، حيث اعتبرت تلك الفكرة أن محمداً هو واحد من الثالوث غير المقدس الذي يضم أبولو، ممثل الأولمبيين الذين سقطوا، وتيرماغانت، ورئيس الشياطين، وينظر إلى هذا الثالوث على أنه مرتبط بالثالوث المسيحي المعروف.

تعتقد ميريديث جونز أن هناك أسطورتين وردتا بشأن كيفية وفاة محمد، حيث كانتا مرتبطتين بالأغاني الشعبية، وجاءتا من الروايات الشفوية؛ إلا أن ماثيو باريس فيما بعد حصل على هاتين الأسطورتين من الشعراء وعزا موت محمد إلى «السُكر»، ونسبت نسخة أخرى وفاته إلى «نوبة صرع»، ومن القصص الأخرى التي كانت معروفة في العالم الإسلامي ولكنها كانت شائعة في الغرب لدرجة أنها ظلت ماثلة حتى القرن الثامن عشر، هي أن محمداً درّب حمامة على التقاط الحبوب من أذنه ليحاكي روح القدس، وأن ثوراً أو جملاً استجاب له عند دعوته، حاملاً القرآن على قرنه.

كانت حكاية الحمامة التي تحاكي روح القدس شائعة جداً في الأدب الأوروبي في العصور الوسطى، واستمرت حتى القرن الثامن عشر حيث نجدها في حكاية سويفت التي عرفت باسم Tale of a Tub، وفي حكاية بوب التي عرفت باسم The Dunciad بينما هذه الحكاية غير معروفة في العالم الإسلامي.

ولدينا قصة أخرى عن حمامة مختلفة تماماً، في تاريخ الإسلام قيل لنا إن محمداً، عندما لحق به أعداؤه، اختبأ في غار في الصحراء، ووصل أعداؤه إلى الغار، وعند مدخل ذلك الغار رأوا عش حمامة وشبكة عنكبوت، وهو مشهد أدى إلى استنتاج أن هذا الغار مهجور لأن الحمامة كانت جالسة في عشها والمدخل محجوب بشبكة العنكبوت، وهكذا، لم يدخلوا الغار، ونجا محمد.

أعتقد أن هذه القصة منطقية للعقل المسلم أكثر من تلك التي تلتقط فيها الحمامة الحبوب لتقليد روح القدس، ويعتقد كل من نورمان دانيال وميريديث جونز أن هذه المفاهيم والتشويهات والتحريفات للإسلام والمسلمين، والتي تنعكس في كتابات المجادلين اللاتينيين وسجلات الكنيسة، تنسب إلى مزيج من الجهل والتحريف المتعمد.

في المقابل، يتحدث محمد باحترام عن جميع الأنبياء بشكل عام والأنبياء المسيحيين بشكل خاص، وهذه حقيقة مذكورة صراحة في القرآن الذي ذكر أن محمدا والمسلمين يقولون: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

لم يدخر بعض كتاب العصور الوسطى أي فرصة لتشويه التعاليم التي جاء بها محمد ونشر الأكاذيب عنه بين جمهورهم الذين أخبروهم، خلافاً للحقيقة، أن المسلمين يسخرون من المعتقدات المسيحية، لكن المسيحيين أنفسهم فوجئوا بمعرفة أن القرآن يتحدث باحترام وتبجيل عن المسيح ومريم العذراء، ومع ذلك فقد حيرهم تكذيب القرآن لصلب يسوع، فالقرآن يقول إن يسوع لم يُصلب من قبل اليهود، بل إن الله رفع المسيح إليه، يقول الله تعالى في محكم تنزيله: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً».

كما أنكر المسلمون الثالوث المسيحي المقدس المؤلف من الرب، الابن، وروح القدس، نظرا لأنه يبدو كفراً بالنسبة لهم، ويقول الله في محكم تنزيله: «مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»، وفي موضع آخر، يستنكر القرآن على المسيحيين اعتقادهم بأن هناك ابنا لله: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً* تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً* وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدا».

وهناك قضية أخرى حيرت المسيحيين وهي وصف الجنة في القرآن، ويتضح وصف الجنة في سورة الدخان: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ* كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ* يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ* لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

د. سناء الحمود

back to top